Middle East Watch
The alternative press revue for a free Middle East
© تموز (يوليو) 2022
http://sammour.modawanati.com/
الثلاثاء 29 جمادى الآخرة 1430, بقلم
كل اصدارات هذا المقال:
أحداث مدينة قلقيلية المأساوية الدامية كانت وستظل لفترة قادمة مبعث تفسيرات وتعقيبات وتحليلات من المتابعين والمعنيين ،سواء تكررت -لا قدر الله- أم لم تكرر، وعليه فإنه ومن وجهة نظري،ولقرائن عدة، أرى أنه يجب أن نربط بين هذه الأحداث وبين انضمام اثنين من نواب كتلة حركة فتح في المجلس التشريعي إلى حكومة فياض الجديدة،بعدما أعلنت الكتلة عن استنكافها ومعارضتها ورفضها الواضح المعلن لهذه الحكومة،وبعد أن صب «عزام الأحمد» رئيس الكتلة جام غضبه على هذه الحكومة وعلى طريقة وتوقيت تشكيلها عبر حوارات على الهواء مباشرة،لدرجة أن بعض المراقبين علقوا بسخرية جادة بأن فتح وحماس قد اتفقتا،رغم ما بينهما من خلافات عميقة،على معارضة ورفض سلام فياض!
كتلة فتح البرلمانية تشكل جسما يمكن أن ننظر إليه كممثل واضح الملامح للحركة التي لها من الأجسام والمؤسسات والمتحدثين والقادة والكوادر ما يتعب القلم في إحصائه، وتعجز الكاميرات عن تصويره إلا بشق الأنفس، وقد كان عزام الأحمد حادّا وغاضبا وصاخبا حين رفض تبرير موافقة فتح على هذه الحكومة (حكومة فياض) باعتبارها «حكومة الرئيس»، على اعتبار أن أبا مازن هو القائد العام لفتح؛ الأحمد قال بأن للحركة مؤسسات وأطر حركية وقيادية هي التي تعبر عن الموقف الرسمي للحركة،وأن موقف الحركة لا يجوز اختزاله بموقف رئيس السلطة،والذي لم يسلم من انتقاداته هو الآخر.
والحال كذلك وفي ظل هذا الموقف الذي ظل سائدا حتى الساعات الأخيرة ،ورغم أن كثيرا من المحللين نظروا إليه كنوع من المناكفة ،وغضبا مفتعلا لأجل مصالح شخصية أكثر منها تنظيمية، وأن المسألة لها علاقة بانعكاسات الصراع وراء الكواليس بين أقطاب فتح بشأن المؤتمر العام السادس... رغم هذه التحليلات والآراء كان يمكننا القول بأن فتح أو جزءًا هاما منها، له صفة رسمية كونه منتخبا وممثلا في المجلس التشريعي يعارض فياض ويرفض تشكيلة الحكومة الجديدة،وكان يمكن أن نتقبل وصف من شاركوا في هذه الحكومة من كوادر فتح بأنه تصرف شخصي وطمع فردي أو اجتهاد يرى بأن فتح يمثلها شخص واحد فقط هو محمود عباس ولا أحد سواه،نعم كان يمكن أن ننظر إلى «حاتم عبد القادر» و«سعيد أبو علي» وغيرهما من هذا المنظار،وكان يمكننا هضم الوصف «العزّامي» لهم بأنهم يقومون بدور «الكومبارس» ،وذلك حتى سقطت آخر قلاع فتح أمام سلام فياض مساء يوم الخميس ٢٠٠٩/٦/٤م.
عزام الأحمد ،قبل انهيار القلعة،كان معه ثلاث نقابات قادرة على شل عمل مؤسسات السلطة في الضفة الغربية؛وهي نقابة العاملين في الوظيفة العمومية،واتحاد المعلمين،ونقابة المهن الصحية،ووصل الحال بهذه النقابات الثلاث إلى نعت حكومة فياض الجديدة بـ«المولود المشوّه»، و تشكل هذه النقابات مخلب القط والسيف الحاد بيد عزام الأحمد ،فمن المعروف أن «بسام زكارنة» رئيس نقابة العاملين في الوظيفة العمومية، تلك النقابة التي لم يسمع بها ولا به أحد قبل الحكومة العاشرة، هو «زلمة» عزام الأحمد والحارس الأمين على رؤاه ومواقفه، أما اتحاد المعلمين فرئيسه منذ سنوات طويلة لا أعرف عددها بالضبط ولكنها بالتأكيد بدأت بعد «السفر برلك» هو «جميل شحادة» عضو المجلس الثوري لفتح.
وكأن عزام الأحمد يقول لسلام فياض أنه بإمكاني تعطيل الدراسة،خاصة على أبواب امتحانات التوجيهي، وتعطيل كل مؤسسات السلطة مثل الصحة والداخلية والمحاكم وغيرها متى شئت؛ ولن يعدم النقابيون الفتحاويون الوسيلة والمبرر لتنفيذ إضرابات جزئية أو شاملة،وهذا آخر ما كان ينقص سلام فياض في هذا الظرف، عوضا عن أمور أخرى يمكن لعناصر من فتح القيام بها، مثل تنفيذ اعتصامات قد تتطور إلى أعمال عنف ضد بعض المؤسسات أو الشخصيات!
المعادلة واضحة:فتح يمكنها إثارة القلاقل ،ولمنعها كانت قلاقل قلقيلية؛فقلقيلية كانت العصا السحرية التي أخمدت أي صوت معارض لفياض داخل فتح إلى أجل غير مسمى،بل ظهر الكل الفتحاوي في حالة اصطفاف مذهلة وراء فياض، ويمكننا القول بأن فياض قد انتصر على فتح قبل أن تبدأ المعركة المفترضة،أما على المستوى الفتحاوي الداخلي فقد أصبح القائد العام صاحب الكلمة الأولى والأخيرة على الأقل فيما يتعلق بإدارة السلطة من خلال فياض!
قلاقل قلقيلية التي منعت و«فرملت» أي قلاقل كان يمكن أن تقوم بها أطراف من فتح ،ودفعت «ربيحة ذياب» و«عيسى قراقع» للتخلي عن الاستنكاف والإسراع لأداء القسم، هي قلاقل لها خلفيات وتوابع كثيرة وأسباب متعددة ومتداخلة ،وقد يرى البعض أنه من المبالغة بمكان اختزال الموقف بهذه الطريقة؛ وأنا هنا سآتي على ذكر بعض النتائج لهذه الأحداث التي ضربت أكثر من عصفور بحجر واحد... ولكن أنا مصرّ على اعتبار هذه الأحداث بمثابة وسيلة تدجين لفتح بشكل نهائي ،بحيث تصبح فتح على الصورة التي نراها اليوم!
إن توقيت ومكان وتفاصيل الحدثين في مدينة قلقيلية الصغيرة الملاصقة لفلسطين المحتلة عام ٤٨ ،والمحاصرة بالجدار العنصري، والمستباحة بشكل دائم من قوات الاحتلال، وأيضا المدينة التي خرج منها استشهاديون أبطال أذاقوا العدو كؤوس الموت الزؤام منهم «صالح نزال صوي» منفذ عملية ديزنكوف قبل حوالي ١٥ عاما، و«سعيد الحوتري» منفذ عملية الدولفيناريوم عام ٢٠٠١، والتي صادفت ذكراها قبل أيام، ويا لها من مصادفة،ولأن حماس هي البعبع؛ كان لا بد من إحداث هلع داخل فتح يوحّدها ضد هذا البعبع الذي انشغلت عنه قليلا ،فكان لا بد من إعادة حالة الهلع إلى سابق عهدها بل رفع حالة الخوف لدرجة لم يسبق لها مثيل.
كما نعلم أن أجهزة أمن السلطة في الضفة الغربية اعتقلت الكثيرين،ومنهم من كان له نشاط في الجناح العسكري لحركة حماس(كتائب القسام) ،رغم أن هؤلاء عادة ما يتولى الاحتلال أمر اعتقالهم أو اغتيالهم كما حدث مع الشهيد «عبد المجيد دودين» قبل أحداث قلقيلية بأيام، فحملات الاحتلال يومية، ولكن لم تطورت الأمور إلى هذا الحد؟ ولماذا في هذا التوقيت وفي هذا المكان ؟وهل الأمر أمني محض لا علاقة له بالسياسة؟
أسئلة قد تكون الإجابة عليها بأسئلة تخويفية،وبخطاب ترهيبي ألخصه بالنقاط التالية:
_ ١- بهذا يقولون لفتح:انظروا ها هي حماس قد استغلت معارضتكم لتنفذ مخططا «انقلابيا»،والحل بأن نكون يدا واحدة في مواجهة هذا المخطط.
_ ٢- الأحداث في الذكرى السنوية الثانية للاشتباكات التي اندلعت في قطاع غزة وانتهت بانهيار الأجهزة الأمنية هناك، وكأن الرسالة إيحاء أو صريحة من وراء الكواليس:انتبهوا فحماس في ذكرى «انقلابها الأول» في غزة تسعى لتنفيذ «الانقلاب الثاني» في الضفة الغربية ،فلننس الخلافات لأن هناك ما يتهدد مصيرنا جميعا.
_ ٣- الاحتلال بتأخيره دخول التعزيزات لقلقيلية بعث برسالته هو الآخر:ماذا لو منعتكم من الدخول؟ وماذا لو كان هناك عشرات المسلحين من حماس؟ وماذا لو اشتعلت مواجهات متزامنة في كل المدن، ومنعتكم من التحرك؟
_ ٤- لا يخلو الأمر من التذكير بطبيعة قلقيلية من قبل من هو معني ببث الهلع والخوف؛ فهي المدينة التي فازت حماس بانتخاباتها البلدية فوزا ساحقا، وهي المدينة التي إضافة لوجود تأييد شعبي لحماس فيها، فإن فيها وجودا قويا لحزب التحرير الذي لا يتوانى عن مهاجمة السلطة ببياناته وخطابات نشطائه بلهجة شديدة وحادة، أي أن المدينة بيئة خصبة لمعارضة السلطة، وعليه يجب أن «تكونوا واعين وموحدين» لمواجهة التحديات.
هل نجحوا؟ نعم كما يبدو، فحركة فتح لم يخرج منها أي صوت لا يعزف نفس اللحن، وذاب أي اختلاف مفترض بين فياض وبين فتح بكافة أطرها والمتحدثين باسمها ،وتوّج الأمر بإنهاء الاعتكاف أو الاستنكاف الذي انتهجته كتلة فتح البرلمانية، وأصبحت فتح كالخاتم بأصبع فياض، نظرا لوجود خطر يتهدد وجودها ،ويبشرها بمصير مرعب، ولا يُستبعد أن الحدث تم في قلقيلية على جرعتين لإثبات نظرية «المخطط الانقلابي» وهو أمر يجعل كل فتح في حالة توجس وهلع يجعلها تقبل أي حصة في كعكة فياض... لأن الخطر كبير، كما أوحي لها!
لماذا أثير الجدل حول «حرمان» فتح من السلطة في ظل سلام فياض؟ ففياض جاء بتكليف من قائد فتح، وبضغوط غربية أيام عرفات، ثم ما أوجه الحرمان التي دار لغط الكثيرين حولها، إذا كانت الصورة كالتالي:
– ٩٠٪ من موظفي السلطة هم من فتح والتابعين لها.
– السواد الأعظم ممن يحملون درجة مدير (A) فأعلى من فتح، وجميع وكلاء الوزارات من فتح!
– جميع قادة أجهزة الأمن من فتح، وكذلك الضباط ومسئولي المناطق، وبخصوص العناصر، من يشتبه بتعاطفه مع تنظيم غير فتح يفصل فورا!
– جميع المحافظين ونواب المحافظين، ونواب نواب هؤلاء من فتح، ومعظم السفراء من فتح، خاصة في السفارات الهامة!
– التلفزيون والفضائية، رغم أن مسؤولها الحالي ليس من فتح، إلا أنها تطرح وجهة نظر فتح فقط، وهي حكر عليها!
– التنظيم الوحيد الذي له حرية الحركة وإقامة الاحتفالات والفعاليات، وبتمويل من السلطة هو فتح!
– أكثر الأموال والمساعدات التي تصل إلى فياض تجد طريقها إلى فتح، بمعنى أن فياض هو مدير مالي لفتح، وإن كان يتصرف بناء على خطط معينة، ولكن ما يهم فتح هو المال وهي تأخذه من فياض!
– جميع المؤسسات المحسوبة على حماس التي لم تغلق بشكل كامل جرى تسليمها لفتح، أو من تحدده فتح من الشخصيات، لدرجة أن بعض دور تحفيظ القرآن الكريم وضعوا عليها من هو غير متخصص... ولكنه من فتح!
فما الذي حُرمت منه فتح؟ ولماذا كثرت التصريحات، وكتبت عشرات المقالات التي تقول بأن فتح أخرجت رغما عنها من غزة، وهي الآن تخرج من سلطة الضفة الغربية برضاها، أو بضغوط من هنا وهناك؟ ولا ننسى أن فتح تشترط في حوارها مع حماس أن يكون فياض ممسكا بالملف المالي، وأطراف من فتح ربما منهم أبو مازن نفسه يرون أن أي حكومة قادمة يجب أن يرأسها فياض، فلم وعلام بكاء فتح، ولطم الخدود، وشق الجيوب، على مجد تقول بأنه ضاع منها؟ الجواب هو أن فتح لا تتصور نفسها أبدا خارج السيطرة على كل مقاليد السلطة من رأس الهرم حتى قاعدته، ولكن الزمان غير الزمان، وحتى الأمريكيون الذين تحرص فتح على إرضائهم، أو بتعبير أكثر دبلوماسية عدم إثارة غضبهم، حتى هؤلاء يرون أنه يجب أن ينتهي الاحتكار الفتحاوي للسلطة، طبعا لاعتبارات خاصة بهم، بل ربما يرون أن هذا لمصلحة فتح!
فتح أرادت أن يكون منها رئيس الوزراء، وأن يكون سلام فياض وزيرا للمالية على مضض ،شريطة أن يصرف من المال المقدم من المانحين كما تريد فتح، لا كما يريد البنك الدولي، ولكثرة أقطاب فتح، فإن فياض سيعجز عن إرضاء الجميع، فإذا أرضى الأقاليم، قد يغضب بعض أعضاء المجلس الثوري، وإذا رضي هؤلاء سيغضب عضو قوي في اللجنة المركزية وهكذا، لذا سيطر فياض على موقع رئاسة الوزراء، وأصر على الاحتفاظ بوزارة المالية، هذه المرة وفي المرة السابقة، واختار من فتح من يضمن أنه لن يلجأ إلى الشغب أو إثارة أي آلام في رأسه، فهو يدير المال كما يشاء، وفتح راضية عموما لأن هذا المال يصلها ولو كانت خزائنه بيد غيرها، ومن يمكن أن يثيروا القلاقل فقد داواهم بإعادة الفوبيا الحمساوية لهم!
وكان على فتح أن ترضى بمعادلة بدأت تدركها وهي أن آخر رئيس وزراء منها هو «أحمد قريع» اللهم إلا إذا حدثت تغيرات دراماتيكية في مرحلة لاحقة، وكان على فتح أن تستغني عن قيام كوادرها وقادة مناطقها ونوابها في المجلس التشريعي بإعداد قوائم للتوظيفات والترقيات والمساعدات المالية، فذاك عهد قد ولّى... ولأن فتح لم تستسغ مرحلة ما بعد القوائم والكشوفات التي يعدها كوادرها،وتململت وحتى شتمت وهددت، كان لا بد من استخدام الوسيلة التي تأتي بنجاح باهر وهي التخويف من حماس وخطورة سيطرتها على الضفة الغربية، في حال لم تقبل فتح بتغيير المعادلات القديمة ،تلك المعادلات التي قامت على أن تنفرد وحدها بكل شيء ،وأن تعتبر ما يأخذه الآخرون منّةً منها وفضلاً يجب أن تشكر عليه!
منذ الوهلة الأولى رأت فتح بأن فياض يضمن لها أمورا عدة؛ فهو الشخص المقبول أمريكيا وأوروبيا ويستطيع جلب الأموال لجيوش موظفيها، وكذلك الحفاظ على الامتيازات والرفاهية لقادتها، ونظرت فتح لفياض على أن ما سينتج عن حكومته من إيجابيات سيحسب لها، أما السلبيات ستحسب عليه شخصيا، وبثقة مبالغ فيها رأت فتح بأن فياض أمره مقدور عليه، ومتى شاءت فتح أن تقول له ارحل فسيرحل فورا؛لاعتماده على دعمها،ولعداء حماس له.
فياض لم يكن ليسمح بأن يكون قفازا بيد فتح لتنفيذ الأعمال التي لا ترغب فتح بالقيام بها مباشرة، ولهذا لاحظنا أنه في حكومته السابقة التي لم تكن فتح ممثلة فيها بشكل كبير، لم تحدث أحداث على نمط ما جرى في قلقيلية، وكان فياض ممتعضا من النقابات التي تجعل منها فتح سيفا مسلطا على حكومته وعلى إدارته للسلطة، ولهذا امتنع فياض عن الجلوس شخصيا مع بسام زكارنة، وكلف وزيرا محسوبا على فتح هو سعدي الكرنز بهذا الأمر، وتواصل فياض مع العساكر، وأخذ يقيم معهم حفلات الدبكة، وساهم قانون التقاعد للعسكريين، والذي ضمن إبعاد العناصر الفتحاوية ذات النشاط والارتباط التنظيمي القوي عن المؤسسة الأمنية، وضمن بالأموال إخماد كل الأصوات التي حذرت من هذه الخطوة.
كان فياض وما زال يزحف بخطط مدروسة لكي تصبح فتح تابعة له، وليس العكس كما أرادت هي،وهنا أدرك العديد من قادة فتح من مختلف المستويات خطورة المصير المرسوم لحركتهم فتحركوا باتجاه الضغط على أبي مازن كي يحدّ من سيطرة فياض التي تتزايد يوما بعد يوم على السلطة،بل تعدتها إلى مؤسسات المنظمة في الخارج، وباء تحركهم بفشل ذريع، كما تحركوا باتجاه الحوار مع حركة حماس، حيث أنهم رأوا أن شراكة مع حماس، أفضل من شطب كامل لحركتهم وبطريقة ممنهجة على يد فياض، وطبعا لم يكن الأمريكيون بعيدون عما يجري فالمؤسسة الأمنية خاضعة لإشراف الجنرال «كيث دايتون» والذي يصفه إعلام فتح بأنه مجرد«منسق»، والمؤسسات المدنية لها خطط وضعها فياض بمعاونة فرق متخصصة للسيطرة تماما عليها من قبل أنصاره، ومن تركوا فتح وانضموا له طمعا في عطاياه.
والظروف العامة تساعد فياض؛ حيث أن الفساد والمحسوبية والشللية والبيروقراطية والترهل وغيرها من المظاهر السيئة التي سادت طوال فترة السيطرة الفتحاوية المطلقة على المؤسسات ،جعل من المقبول، حتى عند أنصار فتح، تقبل أي خطة ،حتى لو كان أحد أهدافها الغير معلنة القضاء على فتح كتنظيم وحركة تحرر،كما حرص فياض على ألا يتلوث بأي قضية فساد مالي، أي أن يوصف بالنزاهة وبراءة الذمة المالية.
ولم يكن فياض ليسمح للحوار بين فتح وحماس أن يكون مهدِّدا له، وهو يسمع باستمرار بأن مصيره مرتبط باتفاق القوتين الكبيرتين، وأن رحيله هو تحصيل حاصل في حال تم توقيع اتفاق بين فتح وحماس، ودعكم من قصص الاستقالات، والزهد في المنصب، والحرص على إنجاح الحوار، فهذا كلام لم يعد صالحا للاستهلاك وبالتعبير الخليجي حكي «خرطي»!
ولا ننسى أن ما يقوم به فياض على أرض الواقع ووضعه خطط مدتها سنوات يدحض فكرة «تسيير الأعمال» والحالة المؤقتة،فما يجري في الضفة الغربية يقول وبكل وضوح عبر كل جزئية بأن الأمور ستطول على منوال الانقسام، وبقاء فياض سنوات في موقعه، رغم الحوار والوساطات، لأنه وبكل بساطة لا يملك أحمد قريع ولا عزام الأحمد حولا ولا قوة ليطالبوا فياض بتقديم بوادر حسن نوايا لإنجاح الحوار،على الأقل حتى اللحظة، ويخلق الله ما لا نعلم!
وبما جرى في قلقيلية فإن الحوار أصبح في مهب الريح، والأهم من ذلك أن ما جرى الحديث عنه حول نية فياض قطع الأموال عن غزة، وهو مرارا تغنى بأن لها نصف الميزانية، هذا الحديث سيكون مطروحا بقوة، وهناك تقبل عند قواعد وحتى كوادر فتح في الضفة لهذا التوجه، وتكرار الحديث عن الأزمة المالية، وتقاعس المانحين عن الدفع،سيجعل من اتخاذ قرار بوقف تحويل أي دولار لقطاع غزة أمرا مرحبا به عند معظم فتح، لا سيما وأن فتح تعتقد بأن هذا الأمر قد يُحدث ثورة شعبية ضد حماس في القطاع، أما عناصر وكوادر فتح الذين سيتضررون من هذا الأمر، فلن يكون بوسعهم إلا الشتم والبكاء والعويل، ثم إن جزءا من «فتح غزة» يحكم وبنفوذ كبير في الضفة كما يعلم الجميع، وعليه لا يهمهم أمر جمهور فتح في القطاع!
أرأيتم كم غيّر فياض من المعادلات ،وكم استطاع قلب الموازين؟ فقد ضمن أن فتح راغبة أم راغمة ستسير وفق خططه ،وستنفذ تحت أي مبرر ما يراه، وأحداث قلقيلية وما قد يحدث في مناطق أخرى تجعل فتح تغرق أكثر فأكثر، ويجعل الحبل الذي وضعته بيدها حول عنقها يلتف بقوة «قد» لا تتمكن من الفكاك منها!
حين شكلت حماس الحكومة العاشرة، أخذت فتح تعزف لحنا اسمه «مؤسسة الرئاسة» والتي قالت فتح بأن كل شيء يرجع لها، وأنها هي تدفع جزءا من المال وقت انقطاع الرواتب بسبب الحصار، وأن الحكومة ليست على شيء ومهمتها فقط مساعدة الرئيس، وأن نظام السلطة رئاسي، وليس برلماني، بل طالبوا بإلغاء موقع رئيس الوزراء.
فياض كان خارج هذه المعادلة، بل تحولت السلطة إلى ما يشبه الوضع في العراق، فنوري المالكي أقوى من جلال الطالباني، ولكن هنا اقتصرت مهمة رئيس السلطة على مسألة التفاوض التي لم تأت بشيء، فيما كان فياض يعلن بلا تردد بأن «نابلس عندي أهم من أنابوليس» وهذا لا يعني بأن فياض يهمل الموضوع السياسي، ولكنه يريد ترتيب الوضع الداخلي قبل موضوع التفاوض،وهو يعلم أن مفاوضات فتح لن تغير شيئا.
المهم أن الجميع يلاحظ بأن فتح لم تعد تتحدث عن مؤسسة الرئاسة، وهناك استسلام لحكومة فياض، وقد يتحجج البعض بأن الأمر مختلف عن حكومة هنية، حيث أن هنية ليس من منظمة التحرير، ولكن حكومة فياض تعلن بوضوح أن برنامجها هو برنامج منظمة التحرير، وأن حكومة فياض هي «حكومة الرئيس».... يا سادة: إذا كان إسماعيل هنية ليس من منظمة التحرير، فهل سلام فياض من منظمة التحرير؟ ثم ما هو برنامج منظمة التحرير؟ ونحن نتحدث عن حكومة لم تنل ثقة المجلس التشريعي لتعرض برنامجها، لنحكم عليه فيما إذا كان برنامج المنظمة أم لا، وهذه سابقة حيث أن عرفات رغم كل ما وصف به من تفرد وأبويّة حرص على نيل أي حكومة يشكلها لثقة المجلس التشريعي، صحيح أن غالبية المجلس كانت من فتح، وأن عرفات كان يلجأ لترتيب إجراءات منح الثقة من وراء الكواليس، ولكنه كان يحرص على إخراج المشهد وفق النظام والقانون، فيما نحن وبحجة الانقسام، يخترق عندنا القانون.
لقد قلب فياض كل المعادلات، وسواء كانت فتح تحبه أو تكرهه فلا يهمه أمرها البتة، إلا بما يرتبه «هو» لا بما تشتهيه «هي»، وأحدث فياض حالة هرولة لدى محاور فتح نحو المواقع، على اعتبار أن الوضع هو «جمعة مشمشية»، وجاءت قلقيلية لتُبرم صفقة حدد فياض ملامحها وتفاصيلها،وهو إذ أعلن أنه «لا يندم» على ما جرى في قلقيلية، مع عدم وجود أي صوت من فتح يتحدث ولو رياءا بطريقة مختلفة، يرسم صورة المشهد، و ليس مهما وفق فلسفة النظام الجديد لو سقط حتى ألف عنصر من الأجهزة الأمنية في اشتباك واحد، فبهذا يضمن النظام الجديد كراهية أسر وعائلات الضحايا لحماس وبالعكس، فتنتقل الكراهية للعائلات والعشائر ويسود منطق الثأر والحقد ويصبح مبدأ العقلانية غير ذي صلة، كما أن لغة الأرقام هي السائدة، وليس هؤلاء الضحايا في كل الأحوال من «أبناء الذوات» ومن طبقة رأس المال السياسي، وهناك الكثير بحاجة للوظائف!
لماذا إلقاء المسئولية على سلام فياض،ما دام أوسلو حاملا لمسائل التنسيق الأمني، ونبذ المقاومة، والارتباط عضويا بالاقتصاد الإسرائيلي...؟ وهنا أورد مقتطفات من مقال اللواء«منذر ارشيد،أبو العبد» نشر قبل أيام قليلة بعنوان «صرخة قلم ...آآآآآآه يا وطن»، حيث يقول:
«هل فياض هو السبب الآن ..!» نسمع الحملة الكبيرة على رئيس الحكومة سلام فياض وأنه الخائن والعميل والدايتوني وغيرها من الأمور لست مدافعا عن أحد ولكن علينا أن نقول الحقيقة فسلام فياض ورغم أنه وكما يقال «رجل أميركا» إلا أنه لم يخترع التنسيق الأمني والتنسيق الأمني سبق معرفتنا بسلام فياض ربما بعشر سنوات فالتنسيق الأمني من أهم بنود إتفاق أوسلو وقد حفظناه عن ظهر قلب مع أول يوم دخلنا الوطن ورأينا كيف يركب الفدائي أو الجندي الوطني مع الجندي الإسرائيلي في سيارة واحدة (الإرتباط ) ورأينا الإجتماعات التي كان يعقدها مسؤولي الأجهزة الأمنية مع الجانب الإسرائيلي وكيف كان يتم اعتقال كل من يعبث بالأمن حسب نظر الإتفاق وهذا يعني أن لا فياض ولا حكومة فياض هي من أسس لهذا الأمر نعم اليوم هناك حكومة يرأسها سلام فياض وهو يقوم بتنفيذ كل التزامات السلطة بكل حرفية ومهنية عالية «ولكن هل سلام فياض جاء مع قسم الولاء بأن يكون ثائراً مناضلاً مقاتلاً حتى تحرير فلسطين .! يجب أن نتذكر أن فياض لم يكن يوماً فدائيا ولا مناضلاً يجوب جبال وسهول الوطن...»
وفي موقع آخر من المقال يقول ارشيد:
«وعلينا أن نتذكر جيدا ً أن جميع مسؤولي الأجهزة الأمنية كانوا من فتح وكان الأمن الوقائي هو الجهاز الأكثر وجوداً ونفوذا ً وتنفيذاً تم إعتقال مقاتلي وقادة حماس والجهاد إثر (عمليات في قلب الكيان ) تفجير حافلات ومقاهي ومطاعم قدمت السلطة حينها أكبر عملية ضبط للوضع الأمني منعاً لقيام أي عمل ضد اسرائيل».
هذه شهادة من ضابط فتحاوي عمل في السلطة في أريحا وبيت لحم وغيرها، واختار الإقامة في الأردن منذ سنوات، وهو كاتب متابع لكل ما يجري.. ووجب عليَّ الإجابة عن السؤال: ما ذنب فياض،ما دام أوسلو هكذا؟
قلت وسأظل أقول بأن أوسلو إحدى النكبات والمصائب التي حلت بشعبنا وأضرت بقضيتنا، وأنا لم أقل بأن لا لوم على فتح فيما جرى ويجري، ولكن هناك ملاحظات عدة عن الاختلاف بين مرحلة فياض وما سبقها في مسألة التنسيق الأمني والحرب على المقاومة ،ألخصها بالتالي:
١- حركة فتح واسعة ومتشعبة، ووجد بها من رفض قلبا وقالبا موضوع التنسيق الأمني،ولو من باب أن هذا يضر بشعبية الحركة، فياض لا يهمه ذلك، وهو يحكم رغم أن قائمته حصلت على مقعدين في المجلس التشريعي وحتى زميلته حنان عشراوي ابتعدت عنه، ولعل هذا ما جعل الأميركان والإسرائيليين وحكومات الظل وكهنة السياسة يتخذون قرارا بترك الاعتماد على فتح لكثرة محاورها وتشعباتها، والاستعانة برأس المال بشقيه المتنافرين أحيانا والمتمثلين بالبنك الدولي ويمثله سلام فياض، والاحتكارات ورجال الأعمال ويمثله منيب المصري.
٢- كان عرفات يعتبر جميع الضحايا في أي اشتباك شهداء للشعب الفلسطيني، وكان حريصا على إطفاء الحرائق، واحتواء المشاكل، ولم يكن يسعى لاستئصال حماس والجهاد الإسلامي البتة، صحيح أنه شق الجهاد الإسلامي، وحاول اللعب على وتر الداخل والخارج في موضوع حماس، لكن فكرة الاستئصال لم تكن في نهجه، هو سعى للإضعاف والاحتواء، وحتى جبريل الرجوب الذي وجه ضربات موجعة لكتائب القسام، كان يسعى لدفع حماس لوقف العمل المسلح، أما نشاطها السياسي والإعلامي والاجتماعي فكان لا يهمه إلا للضغط والمساومة على مسألة العمل العسكري، ولا بد من التأكيد من وجود تيار استئصالي منذ تأسيس حماس وقوي بعد أوسلو، ولكن عرفات كان اللاعب الأكبر وصاحب الكلمة النهائية.
٣- حرصت السلطة عموما على إظهار حسن معاملتها للمعتقلين من حماس، خاصة من لهم رمزية خاصة؛ فمثلا الشهيد محمود أبو هنود حاكموه عسكريا، لكنهم لم يهينوا كرامته ،وقدموا له حياة اعتقالية مقبولة.
٤- كان هناك نشاط وحيوية لأعضاء التشريعي الأول بمن فيهم بعض نواب فتح ،وكانوا يدخلون السجون، ويتحدثون بنقد لاذع لوسائل الإعلام، وكان لهم نوع من الهيبة، بل إن بعضا منهم اعتصموا أمام منزل عائلة «عوض الله» والتي كان منها قياديان من القسام «عماد وعادل» ففرضت قوى أمن السلطة حصارا ومضايقات حول منزلهما في رام الله، وحدثت مشادة تطورت وتعرض أعضاء التشريعي،بمن فيهم من هو من كتلة فتح للضرب، مما ساهم بتخفيف معاناة هذه العائلة المجاهدة، أما الآن فإن أعضاء كتلة الإصلاح والتغيير إما في سجون الاحتلال، ومن هو خارجها غير آمن على نفسه ولا على أسرته، ولا على من يعمل معه،أما أعضاء كتلة فتح فبعضهم أشد في قسوته من الأجهزة الأمنية، ومن لا يعجبه الوضع يكتشف أن الأبواب أمامه موصدة تماما!
٥- كان هناك معالجات ولو محدودة للأخطاء التي ترتكبها أجهزة الأمن ،لمنع تكرارها، خاصة إذا تحولت لمسألة رأي عام؛ فقد اقتحمت أجهزة أمن السلطة حرم جامعة النجاح الوطنية في يوم الأرض ١٩٩٦/٣/٣٠ م وضربت العديد من الطلبة، وعاثت فسادا، وتسببت بإجهاض إحدى الحوامل، فحضر عرفات في اليوم التالي إلى حرم الجامعة وقال كلمته المشهورة: «سامحونا...» وكان هناك وعود بألا يتكرر هذا الأمر، ولكن للأسف هذه المعالجة لم تحصل وفي نفس الحرم الجامعي في تموز/يوليو ٢٠٠٧ حين أطلقت النار على الطالب في كلية الشريعة «محمد ردّاد» وقضى على أثرها متأثرا بجروح خطرة أصيب بها، وحتى الآن القضية ضد مجهول؛ وأيضا حين نقل «محمود جميّل» ،وهو ناشط في مجموعة الفهد الأسود، أحد أذرع فتح المسلحة في الانتفاضة الأولى، من سجن أريحا إلى سجن جنيد في نابلس، وهناك تعرض للتعذيب حتى الموت بطريقة بشعة (في صيف عام ١٩٩٦)، فسارع عرفات لمعالجة الموضوع، وقدم عناصر من الشرطة البحرية ممن تورطوا في هذه القضية لمحكمة عسكرية حكمت عليهم بالسجن من ١٠-١٥ عاما مع فصل من الخدمة، ونوقش الموضوع علنا في المجلس التشريعي، وتحولت جنازة تشييع جميّل إلى هتافات حادة وصاخبة ضد جهاز الشرطة البحرية «عالمكشوف وعالمكشوف بحرية ما بدنا نشوف» عرفات لم يسحب عناصر الجهاز من نابلس ولكن الجهاز منع نهائيا من الاحتكاك بالمواطنين أو التحقيق مع أي كان، صحيح أن هذه المعالجة لم تقنع الناس،لأن التصور العام أن القضية خلفها رؤوس كبيرة ومتنفذة،ولكن العقاب للمتورطين مباشرة ،يواسي نوعا ما!
٦- كان هناك في فتح أقطاب ومحاور على خلاف مع أجهزة الأمن؛ فمروان البرغوثي وعلى إثر مقتل أحد أشبال شبيبة فتح «وسيم الطريفي» برصاص أفراد الاستخبارات العسكرية في مدينة رام الله لم يتردد أن يصف موسى عرفات قائد هذا الجهاز آنذاك بـ«الحقير»، كما تعرض ياسر أبو بكر، وهو قيادي في الشبيبة الفتحاوية، وكان مناكفا بحدة لحركة حماس، وهو حاليا معتقل ومحكوم عدة مؤبدات في سجون الاحتلال، للضرب المبرح من قبل عناصر تابعين لأحد فروع الشرطة التي كان يقودها كاسترو سلامة في مدينة نابلس،ولم يسلم الأخير من بيانات شبيبة فتح اتهمته بأفظع التهم... إلى غير ذلك من أحداث... وطبعا أنا هنا أدرك بأن الوضع الحالي مختلف حيث أن السلطة وفتح يرون أن حماس حركة تسعى للانقلاب عليهم، وأن الوضع كان متشابكا للغاية، وكانت حماس لا تسيطر على شيء، وأن الانقسام والخوف من تكرار ما جرى في غزة يضع كل المؤسسات المدنية والشخصيات الاعتبارية التي يمكن أن تحاول الاعتراض في الزاوية؛ نعم وأنا أعلم مدى حالة الحقد والخوف في صفوف فتح والتي استغلها فياض ووظفها، لكي يشفي عناصر فتح غليلهم من حماس، وأيضا لكي يثبت وضعه فيما هم عنه غافلون؛ ولكن الأمر ليس بهذا التسطيح، ففتح الضفة لطالما حرضوا على كل من في غزة سواء أكان من فتح وقياداتها أم من حماس، وهم ليسوا هائمين بحب غزة وفتحاويها، ولكن المال السياسي حرّكهم وخرج المشهد بأنه انتقام، ثم إن الأرضية كانت قد تهيأت قبل الانقسام، وتحديدا منذ فوز حماس في الانتخابات التشريعية، حيث ظهر لون واحد مسيطر على فتح، ومنع من سواه إبداء أي رأي مخالف، وعودة لأرشيف الأخبار والتصريحات تثبت هذا بما لا يدع مجالا للشك.
٧- عقلية وعقيدة أجهزة الأمن تغيرت كثيرا عن السابق،فقد كانوا يعتبرون أن المناطق المصنفة (أ) هي مناطق سيادة فلسطينية ولم يترددوا في إطلاق النار على جيش الاحتلال على تخومها، خاصة إبان انتفاضة النفق عام ٩٦.
أما اليوم فإن المستوطنين وجيش الاحتلال يعيثون فسادا،ولا تجد أي طلقة تطلق من أجهزة الأمن نحوهم ولا حتى في الهواء، بل تتحدث مصادر إعلامية عن تدخل إسرائيلي قبل تفريغ العناصر.
ثم إن عرفات كان يعتبر مشروع أوسلو وما يتبعه من ملاحقة لمقاومي حماس والجهاد الإسلامي خطوة على طريق «تحقيق الحلم» الفلسطيني، أما اليوم فإن كل الضفة الغربية مستباحة للاحتلال، وما يجري فقط من أجل البقاء السياسي وتوفير الرواتب!
هذه ملامح الاختلاف البيّن بين مرحلة التنسيق الأمني قبل فياض وبعده، مع أنني لا أقلل من الخطايا التي ارتكبت في الحقبة السابقة، وكما قلت مرارا فإن أوسلو نفسه خطيئة كبرى!
بالتأكيد أدرك فياض أن ما يهم فتح هو المال والامتيازات ،بعد أن باءت محاولاتها إعادة عقارب الزمان للوراء بالفشل الذريع، ويبدو بأن فياض شعر بأنه لا يمكن أن يستعدي حماس وجهات قوية من فتح في آن معا،وأنه لا بد أن يؤجل الخطط الرامية للإسراع بالإجهاز على فتح لمرحلة لاحقة، لأن الأمور لم تنضج بما فيه الكفاية، ولا بد من صفقة ترى فتح أنها بها رابحة، ولكن حقيقتها التورط.
وزراء لفتح في الحكومة، وإضافة لامتيازات هؤلاء،لا بد أن الصفقة شملت بعض الترقيات الوظيفية المدنية والعسكرية، كما أن هناك سيارات جديدة يمكن أن توزع على الغاضبين والراضين من كوادر فتح، وقد وُزّع بعضها خلال السنتين الماضيتين، وهناك سفريات إلى الخارج، ودورات تدريبية ممولة من أوروبا و«الذي منو»!
أما بخصوص بسام زكارنة فهو مهووس بالظهور على وسائل الإعلام وبات يتحدث فقط ليقول: أنا موجود، وسيجد مواقع إلكترونية تنشر أقواله إضافة إلى الصحف وربما التلفزيون، وهو بدرجة مدير عام، ولو كان ترقى بشكل طبيعي لما وصل إليها وهو بهذا السن، ولا أظن قدراته خارقة، إنما هي العلاقة التي أشرت لها في الجزء الأول من المقال...الآن فياض يضمن سكوت زكارنة ومن يقف خلفه، لذا سيكتفي زكارنة بالدعوة إلى تطبيق كذا والحرص على كذا وكذا، وكذلك سيطل على وسائل الإعلام شهريا ليتحدث عن أن موعد دفع الرواتب هو التاريخ (...)، رغم أن لا أحد ينتظر منه ذلك، وبالتأكيد سيهاجم حماس لأنها قامت بكذا وكذا في غزة...!
أما جميل شحادة، ولأنه عضو مجلس ثوري أقوى من زكارنة فإن فياض يرى بأن الرجل لن يستقبل من سني عمره مثلما استدبر منها، وأنه لا بد من الصبر عليه قليلا، وربما إرضاؤه بما تيسر،والأخير سيصمت، اللهم إلا من المطالبة بتطبيق القانون الفلاني، وضرورة تجنب البند العلاني، وأيضا سيهاجم «حكومة الانقلاب» لأنها تضر بمصلحة التعليم في قطاع غزة!
وفي الحديث عن زكارنة وشحادة فإن «حافظ البرغوثي» وهو يعرف من أين تؤكل الكتف، ويحسن نقل قلمه من ولاء لآخر لأن الدولارات «بدها خفية» قد كتب في ٢٠٠٩/٥/١م أي قبل تشكيل حكومة فياض الجديدة مقالا في عموده اليومي (حياتنا) في صحيفة الحياة الجديدة التي يرأس تحريرها تحت عنوان «انفلونزا التوزير» قال فيه بالحرف الواحد: «وحتى الآن لا أعرف من المسؤول عن انتشار وباء انفلونزا التوزير، وهناك شكوك في أنها انطلقت من مقهى رام الله مركز العمليات الاضرابية لبسام زكارنة وجميل شحادة، حيث يعدان جدول اضرابات للحكومة المقبلة....» لا داعي للتفكير المطوّل، فحافظ الذي يعرف مع من تميل الكفة، رأى تحذير فياض بهذه الطريقة الساخرة!
ولا يتوقعنّ أحد أن فياض سيسمح برهن مستقبله السياسي،وسير عمل حكومته المرسوم على أعلى مستوى بجلسة شرب «نفس معسل أرجيلة » في مقهى رام الله، ولن يسمح محمد اشتية الوزير المسئول عن زكارنة للأخير بالتمادي!
وحين يقرر فياض التصرف مع هذه النقابات لن يمنعه أحد ،لأن الناس عبيد مصالحها،وفق الثقافة التي عمل تيار واسع من فتح على تعميمها، وهي ستفتك بأصحابها قبل غيرهم، وبالمناسبة فإن زكارنة وشحادة لم يتدخلا للتصدي لإجراءات فصل الموظفين والمعلمين، وأغلبهم عينوا في عهد الحكومتين العاشرة والحادية عشرة، ولكن هناك أيضا من عينوا في عهد حكومة فياض وفصلوا لاحقا، للاشتباه بأنهم يتعاطفون مع حماس، والهيئة المستقلة لحقوق المواطن تحدثت عن هذا الأمر وانتقدته، فما دور كل من بسام زكارنة وجميل شحادة؟ لا شيء سوى الإضرابات المسيسة، والاستمرار بالظهور بمناسبة وبغير مناسبة... فلو وجه فياض ضربة مدعمة بقانون يفصّله كما يشاء لهؤلاء فلن يجدوا من يصرخ من أجلهم إلا عزام الأحمد، وأظن أن فياض قد اعتاد على سماع صراخه، ولم يعد يهمه أمره!
ما جرى في قلقيلية، والصفقة التي أتحدث عنها بين فتح أو من كان غاضبا منها وبين فياض، جرّ عداوة من كانت فتح تراهن على استمالتهم طوال الوقت،وأقصد حركة الجهاد الإسلامي؛ فالجهاد ظل طوال الوقت يحاول إمساك العصا من منتصفها، بل إن بعض الإشكاليات مع حماس في غزة قد جعلت موقفه أحيانا مختلفا جدا،ولكن بعد أحداث قلقيلية كان موقف الحركة واضحا في الإدانة لأجهزة السلطة الأمنية، لأن حركة الجهاد تخشى على عناصرها من مصير مشابه، لا سيما وأن لها سوابق مع أجهزة الأمن (أيمن الرزاينة وعمار الأعرج) ولم تعد ترى في الأمر نزاعا على السلطة.
كما لوحظ أن الجناح العسكري لحماس في غزة كان صاحب التصريحات والقرارات ،أي أن حماس لم تعد تتحدث عبر السياسيين بل عبر العسكريين، وهذا كان أمرا محدودا في السابق...فأحداث قلقيلية قادت لأعداء جدد، ولأسلوب جديد في الخطاب، فهل تدرك فتح أنها دخلت في صفقة باطنها ورطة بل ورطات كان يمكنها تجنبها؟!
لماذا اختار الاحتلال رفع حاجزين بشكل نهائي عن مدخلين لمدينة قلقيلية، والسماح للفلسطينيين من الداخل بالدخول بسياراتهم، بعد الحادثين المأساويين في المدينة؟ أي رسالة يوجهها؟ وما الذي يقصده؟ هذه أسئلة ليست مني فقط، بل لربما تدور في رأس كل فلسطيني.
أما الموقف الإسرائيلي الرسمي والصحفي فقد كان مثيرا للغاية، فمن مدح وثناء،إلى القول بأن هذا لا يكفي، إلى رسم سيناريوهات المرحلة المقبلة...!
كل هذا في الوقت الذي انفلت فيه المستوطنون في شوارع الضفة الغربية، وعربدوا واعتدوا على المواطنين، وفي الوقت الذي ازدادت فيه ظاهرة إرسال الخنازير البرية من قبل جيش الاحتلال ومستوطنيه لتعيث فسادا وخرابا في مزروعات وممتلكات المواطنين في العديد من المناطق، وصادرت المادة السامة التي يمكنها قتل هذه الخنازير، وطبعا يحظر على أجهزة الأمن قتلها، إلا بتنسيق لن يتم إلا ذرا للرماد في العيون في منطقة دون أخرى!
هذا مع كثرة الحديث عن «الفلسطيني الجديد» في الإعلام الصهيوني، فهل كانوا يريدون إجراء «تجربة» لهذا الفلسطيني؟ وهل أصبحنا نسمع عن هذه العمليات قبل وقوعها من وسائل إعلام العدو،فها هي يديعوت أحرونوت تخبرنا نقلا عن لسان من وصفته بمسئول ومصدر أمني فلسطيني بأن الحملة القادمة في مدينة الخليل ومدينة طولكرم.
هذا يذكرنا بما تقوم به قوات تابعة لحكومات تحت الاحتلال من حملات على مناطق معينة لملاحقة «الإرهابيين» ولنا في أفغانستان والعراق خير دليل، ولكن يا عقلاء تذكروا بأن الاحتلال الصهيوني ليس كمثله احتلال في أرجاء الأرض لأنه استيطاني اقتلاعي، وهدفه استئصال الفلسطيني «الجديد والقديم» من الأرض!
هل ترى فتح أين وصلت الأمور ،بعيدا عن الفوبيا من حماس؟أم أن هذه الفوبيا تعطل كل تفكير؟ وهنا أود أن أشير بنقاط محددة لوضع حماس في الضفة الغربية:
١- حماس في الضفة الغربية ضربها الاحتلال ضربات مؤلمة جدا باغتيال العديد من رموزها وقادتها واعتقال البعض الآخر لمدد طويلة مثل الشهداء: جمال منصور وجمال سليم،والأسرى جمال أبو الهيجا وعباس السيد والقائمة طويلة جدا.
٢- نواب حماس ووزراء الحكومة العاشرة والحادية عشرة في الضفة معظمهم رهن الاعتقال في سجون العدو، وإذا أفرج عن نائب اعتقلوا مكانه آخر ،وتعرض رؤساء وأعضاء البلديات التي فازت بها حماس للاعتقال مرارا،بما في ذلك رئيس بلدية قلقيلية، الذي ما كان يخرج من الاعتقال حتى يعود إليه مجددا.
٣- الناطقون والقادة والمرجعيات يقبعون في سجون الاحتلال، وما إن يظهر أحد حتى يعتقل؛ فمثلا وبعد أحداث غزة مباشرة اعتقل صالح العاروري، ثم وبعد شهور لحقه حسين أبو كويك وفرج رمانة، وحين ظهر رأفت ناصيف مؤخرا انضم إلى رفاقه، وهذا أمر لا يخفى على أحد.
٤- الجناح العسكري لحماس تلقى ضربات موجعة وقاسية من الاحتلال ،سواء بالاغتيالات والاعتقالات، أم بسبب الظرف الموضوعي من الحصار ومراقبة كل المواد الخام في الضفة، ويمكن القول انه ومنذ عام ٢٠٠٥ لم يتبق من الجناح العسكري لحماس إلا بقايا لخلايا، وبعضا من المطلوبين الذين ينتظرون مصيرهم.
٥- الحملات التي شنتها أجهزة السلطة ضد حماس تارة بهدف الانتقام، وأخرى بحجة منع تكرار ما جرى في غزة، واعتبارات أخرى كثيرة شتتت الحركة وأضعفتها من الناحية المادية (المال والسلاح والمؤسسات وغيرها).
وعطفا على النقاط الخمس السابقة فإنني أنصح بقراءة مقال الكاتب والصحفي الأردني «عريب الرنتاوي» الذي نشر أمس بعنوان: «فزاعة الانقلاب الحمساوي في الضفة» فهو يثري الفكرة.
ويجب أن نتذكر أن الضفة الغربية محتلة محتلة محتلة ثم محتلة من جيش العدو ومستوطناته، وتحريرها يتطلب جهد الجميع، وأقول وبكل صراحة بأن الاحتلال قد يقدم بعض ما يسميه تسهيلات كرفع بعض الحواجز أو تشغيل أخرى على مدار الساعة وزيادة عدد العمال في الداخل وأمور أخرى، ولكنه سيرسخ احتلاله، وسيزيد من الشرخ الاجتماعي، وهو شرخ عززته أحداث قلقيلية، وقد يتنامى إذا انتقل إلى مناطق أخرى بسبب التركيبة العشائرية والعائلية للعديد من المناطق، وأكثر ما قد يقدمه الاحتلال هو تقليص اجتياحاته والتقليل من تواجده، مع إمكانية العودة لنفس الوتيرة في أية لحظة، والحجة الأمنية، وقصة الإنذارات الساخنة لم ننسها!
أليس منكم رجل رشيد؟ وهل الدولة التي باتت حلما ثمنها أن نكره بعضنا، وأن يتربص كل منا بالآخر؟ لا نريد هذه الدولة إذا كانت ستحول بعضنا إلى قاتل والآخر إلى قتيل، أو إلى سجان وسجين، أو إلى حاكم ومتهم... بكل صدق لا نريد دولة كهذه ،ثمنها كنزنا في هذه الحياة.
أعلم أن هذا الكلام حاليا بات في نظر البعض حلما من الماضي،ولكن لا مناص لنا،والأهم هو تغير الثقافة السائدة التي سأسلط الضوء عليها.
كل حديث فتح يقتصر على كلمات محددة وشعارات تتردد كل حين وآن مثل: «الشرعية»،«المشروع الوطني»، «حماية المكتسبات الوطنية»، «الإصرار على إقامة الدولة»...إلخ
طبعا هناك شعارات ومفاهيم يجب على فتح توضيح ماهيتها، والأهم ما هي الوسائل والآليات لتطبيق هذه المفاهيم التي تعتبرها فتح، على الأقل إعلاميا، كأهداف معلنة.
فمثلا إذا كانت فتح ترى أنها حامية المشروع الوطني، والذي يعني وفق ما يصدر عنها دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران ٦٧ وعاصمتها شرقي القدس، فما هو السبيل لذلك في ظل تغوّل المشروع الصهيوني؟ المفاوضات،وعرض مسألة تبادل المستوطنات مع أراض أخرى مثلا؟ ولم تتنازل إسرائيل لمن ليس بيده أي ورقة ضغط؟ أم أن هذا المشروع لم يعد قائما وحل محله مشروع آخر، أنا لا أتجنى، فصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت أواخر أيار/مايو المنصرم ما يلي:
«وقال بسام ولويل، الناشط السياسي الذي تحول إلى رجل أعمال ويضطلع بدور واضح في محاولة إعادة تشكيل الحركة: اعتادت فتح العمل كحركة تركز على النضال المسلح، لكننا نرغب الآن في التحول إلى حركة اقتصادية واجتماعية ذات سجل جيد في الحكم ينهي الفساد ويعزز الديمقراطية. نحن ملتزمون بالسلام مع إسرائيل»
هل هذه هي الثقافة الجديدة؟هذا انتحار سياسي، طبعا قد يخرج علينا من يقول بأن هذا الرجل ليس من يقرر، حسنا،لم لم يخرج بيان يضع حدا لكلامه بالنفي؟ وحتى لو خرج، فإن التجارب أمامنا واضحة، ثم إن الرجل عبر عن واقع معاش... للأسف هذا ما هو حاصل.
إن حركة فتح قد تحولت بجزء كبير من كينونتها ومن عناصرها وكوادرها إلى كيان لا يرى له حياة دون السلطة، علما بأنها حين شكلت السلطة ظلت تقول بأنها مشروع يحتمل النجاح بالتحول إلى دولة، أو الفشل.
النتيجة أن السلطة أصبحت أداة ضامنة للاحتلال، ولا يبدو أبدا أنها ستصبح دولة، رغم كلام أوباما ورغم وجود ميتشل، وجرّت معها تنظيم فتح، والذي يملك من هو ليس منه مثل ياسر عبد ربه وسلام فياض نفوذا فيه أكثر من قادته التاريخيين مثل فاروق القدومي... أكرر هل من حكماء ينقذون فتح مما هي ذاهبة إليه، أنا أرى أنه بالإمكان انتشال الحركة التي قدمت الشهداء والمناضلين مما وصلت إليه، ومع يقيني أن هذا سيكون متعذرا إذا استمر الانزلاق القائم.
نسأل الله السلامة لشعبنا من الفتنة، وأن يظل الخلاص من الاحتلال في ذهن كل فصائلنا.
والله الموفق....وحسبنا الله ونعم الوكيل
إثر نشر هذا المقال، تم استدعاء سري سمور من قبل أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في ٢٠٠٩/٦/٢٠ ولم يعد لغاية وضع هذا المقال في موقعنا في ٢٠٠٩/٦/٢٣.