Middle East Watch
The alternative press revue for a free Middle East
© تموز (يوليو) 2022
الجمعة 5 شوال 1430, بقلم
كل اصدارات هذا المقال:
انتابني شعور بالهلع حين سمعت مصطلح الفلسطيني الجديد لأنه بدا استعادة لتجربة صناعة الهندي الجديد، التي تعد احدى الجرائم التاريخية الكبرى.
الذي تحدث عن الفلسطيني الجديد هو الجنرال كيث دايتون الذي يتولى رسميا وظيفة المنسق الأمني وهو يقيم في تل أبيب ملحقا بالسفارة الأمريكية هناك. أما وظيفته الفعلية فهي الاشراف على تهيئة الأوضاع في الضفة الغربية بحيث تتوافق تماما مع الرغبات والمخططات الاسرائيلية. وهي المهمة التي يحتل رأس أولوياتها تهدئة الهواجس الأمنية الاسرائيلية. من خلال تخليق جيل من الفلسطينيين نافر من المقاومة ومتصالح مع الاسرائيليين.
من هذه الزاوية يغدو الفلسطيني الجديد كائنا ممسوخ الذاكرة، لا تاريخ يحثه ولا حلم يشده ولا أمل يتعلق به، وانما هو مشغول بالتوافق مع المحيط المفروض عليه، ومهجوس بالدفاع عن سلطة منفصلة عن الأمة، ومحتمية بعدوها التاريخي.
المقاومة عنده ارهاب، وفصائل النضال من بقايا عهد بائد عفا عليه الزمن. و«التعاون» مع الاسرائيليين اسهام مرغوب في الاستقرار، وليس مجلبة للعار.
هذا الفلسطيني الذي يريدونه كائنا غير الذي نعرفه. ومهمة الجنرال دايتون هي العمل على الاسراع بانتاجه، كي يتسلم الزمام ويريح بال الاسرائيليين. والجهد الذي يبذله يتوزع على دوائر ثلاث هي:
– سلطة الادارة
– والأجهزة الأمنية
– والمواطنون العاديون.
ومن الواضح أن كل التركيز في الوقت الراهن موجه الى الدائرتين الأوليين. لأن ترويض الفلسطيني العادي مهمة بالغة المشقة وتحتاج الى وقت طويل.
لقد كانت الرسالة الشهيرة التي وجهها ياسر عرفات باسم منظمة التحرير الى رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحاق رابين (سبتمبر ١٩٩٣) - بداية مرحلة ترويض القيادة الفلسطينية واستسلامها في أوسلو للضغوط الاسرائيلية. ولعل كثيرين يذكرون أن عرفات أعلن وقتذاك الاعتراف باسرائيل ونبذ الارهاب (في ادانة صريحة للمقاومة) مؤكدا أن كل القضايا العالقة ستحل بالمفاوضات، الأمر الذي أغلق الأبواب أمام أي بدائل أخرى في حسم الصراع.
وهذه البداية شقت منحدرا انتهى الى حيث اعتبر خلفه أبو مازن أن المقاومة عمل «حقير»، والى حيث أصبح التنسيق الأمني قائما بين السلطة الفلسطينية وبين سلطة الاحتلال للقضاء على المقاومة واستئصال عناصرها.
وهي القرائن التي دلت على أن ثمة سلطة «جديدة» نالت رضا الاسرائيليين وتأييدهم. الأمر الذي هيأ مناخا مواتيا للتقدم نحو تخليق الفلسطيني الجديد في الأجهزة الأمنية. وهي المهمة التي تصدى لها الجنرال دايتون، وساندته فيها بقوة الرباعية الدولية.
في مطلع شهر مايو الماضي ألقى الجنرال دايتون محاضرة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، تحدث فيها عن جهوده في انتاج الفلسطيني الجديد المنخرط في الأجهزة الأمنية. فقال ان عناصر تلك الأجهزة تم انتقاؤهم من خارج الفصائل، أي من خارج السياسة والدوائر ذات الصلة بالنضال (الارهاب). بحيث يتحول الواحد منهم الى شرطي ينتمي الى مهنة أكثر من انتمائه الى وطن أو قضية. وعلى حد تعبيره فان الشرطي يلقن ابتداء أنه يعد لكي لا يحارب اسرائيل، ولكن لكي يحفظ النظام ويطبق القانون لهدف أساسي هو: العيش بأمن وسلام مع الاسرائيليين.
الى جانب الاعداد العسكري لأجهزة الأمن، فهناك الاعداد النفسي الذي يستهدف تغيير طريقة تفكير ذلك الجيل الجديد من الجنود، الذين يعملون تحت قيادة ضباط سبقوهم في التعاون والتنسيق الأمني مع الاسرائيليين، وهذا التنسيق له هدفان أساسيان هما ملاحقة عناصر المقاومة واجهاض عملياتها.
والحيلولة دون تصعيد التوتر بين الجماهير الفلسطينية وقوات الاحتلال.
الجندي الفلسطيني «الجديد» أصبح لا يتردد في تنفيذ تعليمات مطاردة أو خطف واغتيال المقاومين. والضابط الجديد أصبح على تنسيق يومي مع الاسرائيليين. حتى تباهى الجنرال دايتون بأن التعاون بين الضباط الفلسطينيين ونظرائهم الاسرائيليين حقق نجاحا كبيرا أثناء العدوان على غزة، لأنه ساعد على تهدئة الأمور في الضفة، لدرجة أن الضباط الفلسطينيين كانوا يطلبون من الاسرائيليين الاختفاء عن الأنظار لساعة أو ساعتين من بعض المواقع، كي تمر المظاهرات دون أن يستفزها وجودهم. وذكر أن ذلك «التفاهم» حقق نتائج مدهشة في بيت لحم لدرجة أن القائدين الفلسطيني والاسرائيلي تبادلا ثقة أدت الى رفع حظر التجول في المدينة على الرغم من أنه مطبق في الضفة كلها منذ عام ٢٠٠٢. كما أنها سمحت للفلسطينيين بادارة نقاط التفتيش الخاصة بهم لوقف عمليات التهريب.
عملية انتاج الفلسطيني الجديد منزوع العداء لاسرائيل اعتمدت لها الولايات المتحدة ١٦١ مليون دولار ويديرها الجنرال دايتون حقا، ولكن بمساعدة فريق أمني من كندا والمملكة المتحدة وتركيا.
أما معسكرت تأهيل أولئك الضباط والجنود فتتم في الأردن. وهذا الفريق الأمني على صلة يومية مع فريق من رجال الشرطة الأوروبيين الذين يساعدونهم في تنفيذ مخططهم.
في ختام محاضرته قال دايتون ان الاسرائيليين مهتمون للغاية بعملية اعادة تأهيل الأجهزة الأمنية، معتبرين أن نجاح جهود انتاج الفلسطيني الجديد هو الضمان الحقيقي لاستقرار السلام في المنطقة.
اذا أضفنا الى ما سبق تغير أسماء المدن الى العبرية، والضغوط التي تمارسها اسرائيل لمحو تاريخ النكبة والنضال الفلسطيني من مناهج التعليم في الضفة، بما يؤدي الى محو الذاكرة الفلسطينية، فاننا نكون بازاء «سيناريو» احتلالي يطبق في فلسطين ما سبق تطبيقه مع الهنود الحمر منذ ثلاثة قرون تقريبا. ذلك أن ما يجري الآن هو صورة طبق الأصل لما فعله المهاجرون البروتستانت الانكليز حين وفدوا الى بلادهم التي عرفت فيما بعد باسم الولايات المتحدة الأمريكية.
وهي التجربة المثيرة التي وثقها بمختلف فصولها المروعة الباحث سوري الأصل منير العكش المقيم في الولايات المتحدة وهو مؤسس مجلة «جسور» التي تصدر بالانكليزية. وأستاذ الانسانيات بجامعة «سفك» في بوسطن. وقد صدر له في الموضوع كتابان. (عن دار رياض الريس ببيروت) أحدهما سنة ٢٠٠٢ عن الابادة الجسدية الجماعية للهنود، كان عنوانه: حق التضحية بالآخر - أمريكا والابادات الجماعية.
أما الكتاب الثاني الذي عالج الجانب الذي نتحدث عنه فقد صدر في شهر يوليو من العام الحالي. تحت عنوان «أمريكا والإبادات الثقافية».
الكتاب الأول تحدث عن استئصال الهنود، والثاني تحدث عن طمس هوية من بقي منهم على قيد الحياة، بحيث لا يصبح الهندي هنديا حقيقيا، وانما يغدو «مخصيا» ثقافيا، ومن ثم انسانا جديدا مقتلعا من جذوره ومنتميا الى غير أهله.
من النقاط المهمة التي أثارها الباحث أن الانجليز البروتستانت حين نزحوا منذ بدايات القرن السابع عشر الى ذلك العالم الجديد الذي أطلقوا عليه اسم اسرائيل، فانهم اعتبروا أنفسهم «يهود الروح» (العبرية كانت لغة المتعلمين منهم والعهد القديم اعتبر مرجعهم ومرشدهم). وقد تمثلوا في هجرتهم الخروج الأسطوري للعبرانيين من أرض مصر الى أرض كنعان في فلسطين. وبدورهم اقتنعوا بأنهم »شعب الله المختار«، وأن مشيئة الله تجسدت في أرض كنعان الجديدة، كما جسدت فكرة اسرائيل مشيئة الله في أرض كنعان القديمة (فلسطين).
ولأنهم «الشعب المختار» فقد انطلقوا من أن معاملة السكان الأصليين في البلاد التي هاجروا اليها لا تخضع للقوانين الأخلاقية أو المبادئ العقلية، ومن ثم اسقطوا عليهم فكرة كراهية العبرانيين للكنعانيين، التي سوغت للأولين ممارسة القتل والاغتصاب والاستعباد بدعوى تنفيذ المشيئة الالهية التي فوضتهم في ذلك حين أمرت بذبح الفلسطينيين الكنعانيين.
المشهد لا يخلو من مفارقة، لأن المهاجرين الانكليز حين فعلوا ما فعلوه بحق الهنود الحمر، فأبادوهم واغتصبوا أرضهم فانهم استلهموا تجربة خروج العبرانيين من مصر الى أرض الكنعانيين في فلسطين. ثم دارت دورة الزمن ووجدنا أن الاسرائيليين «العبرانيين» في هذا الزمان استلهموا تجربة المهاجرين الانكليز بجميع مراحلها، من الاستيطان الى الاحتلال واستبدال شعب بشعب وصولا الى استبدال ثقافة بثقافة.
وفي هذا الشق الأخير فان فكرة أولئك المهاجرين في انتاج الهندي الجديد. جرى استلهامها في محاولة انتاج الفلسطيني الجديد. اذ ظل الهدف واحدا، على الرغم من اختلاف التفاصيل والأساليب.
تحدث المؤلف عن أنه فرح حين وجد بين طلابه في الفصل الدراسي الجديد فتاة من أصول هندية اسمها سنج سوك، لكنه دهش حين دعاها باسمها مرة ومرتين ولم تجب. وبعد انتهاء المحاضرة جاءته بوجه شاحب وشفاه مرتعشة، ورجته أن يناديها باسم جينيفر، قائلة انها لا تحب أن يناديها أحد باسمها الأصلي. واعتبر أن ذلك الخوف من الذات، الذي يستبطن كراهية للذات في الوقت نفسه، هو من ثمار عملية انتاج الهندي الجديد، الذي أريد له أن يخجل من هنديته في نهاية المطاف ويشعر بالعار حين يستعيد أيا من بقاياها.
عقب منير العكش على هذه الواقعة بقوله ان هناك شعوبا هندية كثيرة لم تفقد أسماءها الحقيقية فحسب، بل صارت لا تعرف سوى الاسم الذي فرضه عليهم غزاتها. واستطرد قائلا انه: في سياق هذا الاقتلاع والاخضاع والتعرية الثقافية، التي اعتبرها »المحرقة الأخيرة للوجود الهندي، مسخت فكرة أمريكا جسد ضحيتها الهندي وثقافته الى مادة ملوثة للانسان والطبيعة لابد من تطهيرها. وكانت برامج التعليم على رأس الوسائل التي استخدمت لكي«.. نزرع في الطفل الهندي ذاكرة الغزاة ولغتهم ومزاجهم وأخلاقهم ودينهم.. بحيث يتدرب ذلك الطفل الشقي على الاشمئزاز من نفسه ومن كل ما حوله، ويشحن بالخوف من هنديته، والنظر الى نفسه والى العالم بعيون جلادية.
في فصول الكتاب سجل المؤلف شهادات ومقولات منظر الابادة الثقافية التي تمت في ذلك الحين، واختزلت في عبارات مثل:
اللغة والدين هما خط الدفاع الأخير للهنود ولابد من القضاء عليهما (الكابتن براد مؤسس مدارس الهنود ١٨٤٠ –
١٩٢٤) - ان الهنود قد يتعافون من مجزرة أو شبه مجزرة، لكنك حين تعلم الهندي وتغسله فانك ستقضي عليه حتما، عاجلا أم آجلا.. اقصف كل هندي بالتعليم والصابون ودعه يموت «مارك توين ١٨٦٧»
– علينا أن نربي طبقة تترجم ما نريد للملايين الذين نحكمهم. طبقة من هنود الدم والبشرة، لكنهم انجليزيو الذوق والأفكار والتوجه والأخلاق والعقل «توماس مكولاي مؤسس السياسة التربوية في أوساط الهنود ١٨٠٠ - ١٨٥٩».
من المفارقات أن عملية انتاج الهندي الجديد كانت من مهام مكتب الشؤون الهندية الذي تأسس في سنة ١٨٠٦، وقال المؤلف انه يعد بلغتنا الحديثة »السلطة الوطنية الهندية«، التي قام عليها نفر من الهنود الذين تنكروا لأصولهم، وتسموا بأسماء انكليزية، وهؤلاء اتبعوا أساليب بعضها تم استنساخه في فلسطين، منها على سبيل المثال، فرض حصار خانق على الجماعات الهندية المماثلة التي تمتنع عن تسليم أطفالها لمدارس التأهيل، وقطع امدادات التموين عنها لفترة طويلة قبل اقتحامها واعتقال الآباء وخطف الأبناء وقتل الزعماء
– استخدام سياسة «السلام» لكي تكون الألة المثالية لسحق هندية الهنود وخلق جيل جديد من السماسرة الذين يسلمون بالأمر الواقع ويعترفون بشرعيته
– اقامة مدن للهنود »المتعاونين« الذين دخلوا في دين الغزاة، واعتبروا المجتمع الهندي الوحيد الذي تم الاعتراف بشرعيته، وجرى تمثيله بقيادات ثم اختيارها «ديموقراطيا» (!).
لا يحتمل الحيز المتاح مزيدا من التفصيل في المعلومات والشهادات المثيرة التي حفل بها الكتاب، لكن الأكثر اثارة فيه أنك حين تطالع فصوله لابد أن تستحضر الحاضر، حتى يخيل اليك أنك تقرأ رصدا لما يحدث في فلسطين هذه الأيام.
صحيفة الوطن الكويتيه الثلاثاء ٣ شوال ١٤٣٠ – ٢٢ سبتمبر ٢٠٠٩