Middle East Watch

Middle East Watch
The alternative press revue for a free Middle East

© تموز (يوليو) 2022


حل السلطة ...أم رهن الدول

من تحرير الوطن لهيمنة إيديولوجيا التسوية وانتهاء ب "الكلبشة" للمصارف

الحياة ليست مفاوضات...الحياة مقاومة

الأحد 28 رجب 1431, بقلم د. عادل سمارة

كل اصدارات هذا المقال:

  • عربي

صار مألوفاً ذلك الصوت المنبعث من متعدد، كلما تبدَّت أزمة المفاوضات على السطح ، مرددا: سنحل السلطة، أو حِلُّو السلطة...! ولكن السلطة باقية.

يعيدنا هذا الحديث إلى الكثير مما قيل بشأنها. بعض القوى الفلسطينية رددت منذ مفاوضات مدريد اوسلو أنها سوف تُسقط أوسلو. ومن يتذكر لا بد يستحضر نصائح وُجهت إليهم حينها: «قولوا نحن ضد اوسلو...فلو كان بوسعنا إسقاطها لما حصلت» اي لا ترفعوا شعارات يبين للناس سريعاً أنكم غير قادرين على التقدم بها وإنجازها.... ومع السنين بقي شعار : «نحن ضد اوسلو» ...بينما ينخرط الرافضون فيها يوما إثر آخر وكادرا بعد كادر. وبتوالي السنين صار بوسع كل امرىءٍ قول أمرٍ والإتيان بضده وتم الاعتياد على ذلك. تكونت إذن مدرسة في إطلاق التصريحات وممارسة عكسها، ولعل أخطرها رفع شعارات مناهضة التطبيع من قبل مؤسسي ممارسة والتمتع بالتطبيع، وشعارات حل السلطة إلى حد أن أهل السلطة أخذوا يرددون ذلك الشعار كما صرح د.عريقات مؤخراً بعد أن اصدر كتاباً بعنوان : «الحياة مفاوضات» في بلد الحياة فيها مقاومة!

لو كانت سلطة الحكم الذاتي صناعة فلسطينية بحتة لكان القول بحلها أو إسقاطها...الخ قابل للتفكير. لكن السلطة هي توافق بل قرار من «قيادة العالم» من المركز الراسمالي وبموافقة مصلحية من الكيان الصهيوني الذي لم يحلم قط أن يعترف به فلسطيني مقابل هذا الثمن الزهيد. فالسلطة مدعومة من الكيان ومن الولايات المتحدة والعالم الرسمي الغربي مما يجعل منها مؤسسة سلطة رسمية عالمية الدعم والتعزيز.

تتعلق الفقرة أعلاه بصعوبة تفكيك السلطة بالقوة، وتتعلق كذلك بأمر أهم وهو ان تفكيك السلطة جزء من تحرير فلسطين، وهذا ليس واجب الفلسطينيين وحدهم. يجب التنبه إلى العرب الطيبين الذين يحلمون كل صباح بانتفاضة جديدة في الأرض المحتلة، أن يتنبهوا إلى أن هذا واجبنا نعم، ولكن ماذا يصنعون هم تجاه السلطات لديهم وتجاه مواجهة العدو؟ وبالحد الأدنى: هل منعوا المطبعين الذين يتدفقون إلى أحضان العدو ويستقبلهم أشباههم هنا! أليست القضية ومن ثم الصراع عربياً!

إذا كانت السلطة قوية فإن من يحلها هو من أقامها. ومن اقام السلطة فقد اشتغل جيداً على أن لا تكون قابلة للحل محلياً بما هي جزء من المشروع الأميركي للمنطقة. لذلك فإن ما يحصل هو انتقال أوسلو من مرحلة لأخرى، وكانت آخر أطوارها الإنتخابات الأخيرة لمجلس الحكم الذاتي التي شاركت فيها معظم القوى السياسية. اما في السنتين الأخيرتين فيتم تقويض سلطة حركة فتح وتركيز السلطة بأيدي من تختارهم الولايات المتحدة بما هي مصدر التمويل والتسليح وهذا ضمن سياسة تحويل حركة فتح من حزب حاكم إلى مجموعات من الموظفين وفي أفضل الأحوال من فئة من طالهم التزويد.

قد يكون كاتب هذه السطور من القلة التي رفضت أوسلو من حيث المبدأ ونادت بحل السلطة قبل أن تتمأسس وقبل أن تربط ما يقارب ثلث أهل الأرض المحتلة ربطاً معيشياً.

وبين هذا الثلث فئات لها دور قراراتي في إقامة السلطة وتثبيتها، فهناك من دعموا مفاوضات مدريد واتفاق أوسلو وشاركوا في المفاوضات واتوا مع التسوية وشغلوا مناصب قيادية فيها ومراكز مالية وقراراتية ، ونظَّروا سواء من مداخل لبرالية أو حتى ما بعد حداثية ومن منظور ماركسي مرتد علانية مستخدمين بالمقلوب أطروحات الماركسية ليبرروا صيدا صغيرا هو إرجاعهم هنا بدل عودة الشعب والحصول على مرتبات وتقاعد ورخص استيراد السلع والثقافة...الخ.

باختصار هناك بلغاء في عرض مفاتن التسوية وها هم اليوم بقدرة اللغة والبلاغة وغياب النقد وتدهور المقاومة يمارسون نفس البلاغة في نقد وتقريع ولوم نفس التسوية بعد أن "قضوا منها وطراً"، فهل هناك أخطر من تصديقهم؟

لنعد إلى قوة السلطة. السلطة جهاز سياسي اجتماعي طبقي لمشروع سياسي اجتماعي طبقي. والذي صاغ السلطة يفهم هذا جيدا وتماماً. لذا وفر لها او جعلها قوة سلطوية/ مالية تعتمد السلطة والمال لتقوية نفسها وإقامة حزام اجتماعي لصالحها أو جهاز بيروقراطي ضخم.

جعلها قوة سلطوية، لا قوة مقاومة، بمعنى اقتناع وإقناع كثيرين بأن لا مجال لتنفيذ المشروع التحريري مما جعل أوسلو وتوليد دولة أوسلو بديلا سلطويا لتحرير الوطن. والبديل السلطوي يوفر المصلحة المادية والإشباع المعنوي بممارسة السلطة ونياشينها وسطوتها، تجنيد جنود للحاكم وشرطة ومخبرين...الخ هذا الشعور مرتبط بنظريات عديدة في السياسة/الدولة/السلطة/القوة ومن صاغوا التسوية يفهمون هذا جيداً او هو بالعربية الدارجة القوة والصولجان. وهذا موجود في الأرض المحتلة. وليسأل المواطن نفسه: هل نرى في الشوارع أو الأماكن العامة رتبا أعلى من ضابط صغير؟ هي إذن ابهة السلطة والانفكاك عن الاندماج بالمجتمع لتكريس الهيبة ناهيك عن الاعتقال والتحقيق والتعذيب...الخ.

ثم المال، وكيف لا يكون له دوره في بنية راسمالية تابعة وغير منتجة ومعنيٌ بها المركز الراسمالي المعولم؟ وقد أجرؤ على التحدي بالسؤال: من الذي يعرف المبالغ التي تدفقت على هذه السلطة بعد اوسلو؟ وحتى رغم بالونات الاختبار عن الفساد هل جرت محاكمة فاسد واحد امام الناس؟ فلهذه السلطة جنود في الشوارع وجنود لم نراها، وجيش السيد دايتون ليس سراً، ناهيك عن الأجهزة العلنية.

وفي المرتبة الثانية هناك الحزام الفكري الثقافي للسلطة مثقفوها العضويون وهناك قاعدتها الاجتماعية التي ذُكرت أعلاه.

والحزام الفكري الثقافي للسلطة اقدم من اوسلو، هناك المثقفين اللبراليين الذين كانوا مع الاعتراف بالكيان ولا زالوا، ومن يود المعرفة عليه أن يقرأ لا أن ينتظر تزويده بالأسماء. وهناك المثقفون الماركسيون التقليديون الذين حتى اللحظة يروجون للاعتراف بالكيان، وهناك المثقفون الماركسيون من غير الحركة الشيوعية القديمة الذين زايدوا على القديمة ولكن سبقوها إلى التسوية. المفارقة في هذا الحزام أنه كانظمة الحكم، لا يخجل من تقلباته ويحتقر عقل الناس، لذا ينتقل من مروج لأوسلو إلى ناقد حالياً لهذه السلطة وكأنه لم يكن من أدواتها. وفي الحقيقة نقول هنا: هنيئاً للسلطة!.

وهناك آليات إنشاء وتقوية السلطة آليات: «التجريد/التزويد» هي قاعدة عريضة بعرض البلد. اهمية هذه القاعدة أنها تعرضت أولاً للتجريد من أرصدتها:

 فكل فلسطيني أتى مع السلطة اتى بشخصه.
 ومعظم العمال في الخط الأخضر أتوا إلى السلطة بقوتهم الجسدية قوة عملهم.

وبدون تعداد فئات أخرى، فقد شكلت هاتان المجموعتان القاعدة الاجتماعية للسلطة، ورغم أن معظمها من حركة فتح إلا أن بها الكثير من القوى الأخرى. وهذه القاعدة الاجتماعية تربو مع اسرها على المليون شخص. وهي التي تم نقلها إلى التزويد فكانت الرتب والوظائف والامتيازات.

ولكن، لماذا نذكر التجريد؟ لا نذكره بمعنى الفقر والغنى، بل بمعنى انعدام فرصة العودة إلى ما كان بأيديهم كي لا يتمكنوا من الرفض. فإلى اين يذهب العائد أو العامل في الخط الأخضر؟ هذه هي الحلقة الأولى من المصيدة.

وبدوره فالتزويد خلق مصالح فردية للأكثرية العادية وطبقية للنخبة. وبالطبع قامت النخبة ذات القرار السياسي الإداري بتشريك علاقة مع الراسمالية المحلية التي هي كمبرادورية بالبنية وبالتطبيع مع الاحتلال. ونذكر هنا ثلاثة ممارسات لثلاثة نخب:

 الأولى: أن سلطة الحكم الذاتي ما ان عادت حتى أوقفت الانتفاضة وأوقفت المقاطعة وأعلنت التطبيع ولا تزال، وساندها في هذا الحزام الثقافي.
 والثانية: أن رأس المال المحلي والعائد مارس بمعظمه التطبيع الاقتصادي سرا وعلانية وآخر ترتيباته تشكيل مجلس الأعمال الإسرائيلي الفلسطينيني قبل ثلاث سنوات.
 الثالثة: تناسل مثقفي التطبيع من مختلف العقائد وممارستهم للتطبيع وهجومهم السافر على مناهضي التطبيع ونقد بعضهم للسلطة بعد أن خدموها بإخلاص ولكن دون أن يقطعوا مع التطبيع!

هذه النخب الثلاث قد تشكل الطبقة الحاكمة سياسيا، لا سياديا، وهي المبنى الاجتماعي للتراكم اجتماعيا واقتصادياً وهو تراكم لم ينجم عن إنتاج بقدر ما هو ناتج عن تلقي سيولات مالية هي مثابة ريع مالي لمواقف سياسية.

توسيع القاعدة لضمان البقاء

يخطىء من يعتقد أن سلطة الحكم الذاتي تسير على التساهيل وتسيِّر الأمور هكذا، ومن يفعل ذلك كمن يعتقد ان حكام الخليج مجرد مشايخ عربان كأيام داحس والغبراء. للسلطة مثقفيها ومخططوها وهي تستفيد بالضرورة من دوائر ومعلومات والتخطيط في الدول التي ترعاها.

وقد يكون أفضل شاهد على هذا آليات العمل الاجتماعي الاقتصادي للسلطة.

هناك أولا التطبيع. فالتطبيع أصبح في الأرض المحتلة سلوكا عاديا ومكونا اساسياً في الحياة اليومية للناس بعد أن جرى مسح تراث المقاطعة خلال الانتفاضة الأولى. صار التطبيع سلوكاً عادياً وحتى عفوياً لا يثير وخزة ضمير ذاتي ولا تساؤلات ولا تناقضات ولا حتى مناقشات. هناك استهلاك منتجات الاحتلال وهناك العلاقات الثقافية والإعلامية وهناك المؤتمرات المشتركة وهناك المطبعون المحليكن مع المؤسسات التطبيعية المحلية بدءا من السلطة وصولا إلى أوساط الثقافة والأدب والفن والمسرح ...الخ. وهناك تدفق المطبعين/ات العرب وهناك ما ليس معلناً. والمهم في الأمر ان هذه لا تثير لدى المواطن العادي تساؤلات: لماذا تتم هذه العلاقات مع العدو؟ ألا يرتد عدم المسائلة إلى «الرنوخ» في التطبيع والتلذذ به؟

وتتم التغطية على علاقات التطبيع بآلية خبيثة عن سبق إصرار بالانحصار أو حصر النقد في نقد السلطة. وهذا يعني أولا أن العدو دولة عادية وجارة ليس أكثر وأن المشكلة بالنسبة للناس هي داخل المجتمع أو بين المجتمع والسلطة. وفي سبيل تمرير التطبيع والتسوية تغض السلطة الطرف عن النقد الموجه ضدها، فهو تدريب على اعتبار الاحتلال دولة جارة وهذا لحم أوسلو وسداها.

ومن درجات توسيع قاعدة السلطة إشغال الناس في المشروع السياسي المنبثق عن اوسلو، أي مشروع الدولة (أوسلو- ستان). ومشروع الدولة هو التجسيد الأخطر لأوسلو، فهو يعني الاعتراف النهائي بأن المحتل عام ١٩٤٨ ليس وطننا.

أما اليوم فتوسيع القاعدة يبلغ مداه ربما الأقصى بتوريط معظم المواطنين في شبكة مديونية اقتصادية لا أصول لسدادها. مجتمع مرهون بعدة مستويات وهذه المصيدة الثانية:

 الرهن الأول رهن المنح من الدول المانحة بمعنى أن يوم واحد لن نعيشه إذا توقف الدعم من العرق الأبيض. والدعم ليس منحاً بالكامل، فهناك قروض ولا أحد يعرف حجمها، والمهم أن يوم تسديدها آتٍ فمن اين سيتم التسديد طالما لا توجد قاعدة إنتاجية، وربما لا يوجد وطن! أليست هذه حالة مضارباتية هائلة؟ هل سيتم تسديد أقساط القروض من قروض أخرى؟ وإلى متى؟ وهل سيستمر النهج القائم على: توفير دعم ومنح مالية مقابل تنازلات سياسية؟ ريع مالي مقابل تفريط سياسي؟ ففي الدول التابعة «العادية- اي التي لها وطن» يتم تأميم الديون اي أن الدولة الفاسدة تحول الديون بحيث يدفعها الشعب من الضرائب أو تطبيق سياسات/ وصفات صندوق النقد الدولي التقشفية بل التجويعية. لكن في حالة الحكم الذاتي من اين يمكن سلخ ضرائب باهظة في بلد قاعدته الإنتاجية أضيق من سيادته السياسية!

 والرهن الثاني أن المركز الرأسمالي الأبيض يرغم الأنظمة العربية على تقديم المساعدات من خلاله وحسب مما يؤكد التبعية الرسمية العربية للغرب.

 والرهن الثالث هو تشبيك معظم المواطين في شبكة شراء ومديونية هائلة من شراء البيت إلى السيارة إلى السلع المعمرة إلى تكاليف الزواج والتعليم وحتى السياحة...الخ.

لقد أعطانا الغرب الأبيض درساً في هذا السياق ولم يتنبه له الكثيرون إثر إعلان نتائج انتخابات مجلس الحكم الذاتي. وهذا متعلق بالتجريد الذي اشرنا إليه أعلاه. فالذين كانوا يعملون في الخط الأخضر أوحتى في دوائر الحكم العسكري المباشر (صحة تعليم زراعة...الخ) تحولوا إلى موظفين لدى سلطة الحكم الذاتي، وتعهد الغرب "المانح" بدفع رواتبهم. وما أن جاءت نتائج الانتخابات بعكس ما أراد المانحون (أي صانعي أوسلو) كان الانقلاب الأوروبي-الأميركي الأبيض/الانقلاب المعولم وتوقف دفع الرواتب!!! وبالطبع لا يستطيع المجردون العودة لما كانوا عليه!

نشترك مع العالم في .....السلبيات

اصبح الرهن مكونا اساسياً من مكونات السياسة اللبرالية الجديدة على صعيد عالمي، فهو في البداية توليد مَنافذٍ تنفيس أو خلق فتحات كي يتسرب منها رأس المال الكسول Lazy Capital إلى الاستعمال كي يواصل تحقيق التراكم، والأموال الكسولة مقادير هائلة من المال تتراكم في أيدي الأغنياء وتتناسل مضارباتيا دون قاعدة إنتاجية، اي دون ان تكون من توليد اقتصاد حقيقي ومن هنا فإن كونها كسولة بمعنى ضيق منافذ تصريفها ضيق فرص الاستثمار وتفاقم الأزمة في جانب العرض Supply-side Crisis وليس لأن هناك رأسمالاً لا يبحث عن الربح والتراكم. ولأنها تشترط التحرك والاستثمار فقد ولدت بطاقات متعددة لتسهيل الشراء، وهذا يجعل المجتمع بأكمله محكوماً للمصارف حيث يقضي المواطن يومه في الدفع أو القبض بموجب هذه البطاقة أو تلك.

هذا حال المجتمع الراسمالي في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة. ولكن لأن المصارف تبيع وتشتري النقود كي تراكمها، فقد كانت ظاهرة الرهونات في أميركا هي تجاوز المصارف لقوانين وضمانات قدرة المقترض على سداد أقساط القروض وبالتالي توريط كل مواطن بالاستدانة بأكثر من موجوداته الارتهانية، وهذا ما أدى إلى العجز عن السداد.

ولم تنحصر الظاهرة في الغرب بل وصلت مختلف بلدان العالم الثالث، مما يؤكد أن النخبة المصرفية هي التي تحكم عالم اليوم من المركز إلى المحيط. مختلف مواطني بلدان العالم مرتهنون للمصارف التي دفعت إلى الأسواق بمقادير مالية هائلة وأعطت قروضا بلا ضمانات مؤكدة للدفع. أليس هذا ما يطيل عمر الراسمالية، ويكشف عن ضعف الرد الثوري الاشتراكي عالمياً؟ ولكنه يكشف كذلك عن وجوب التصدي لعالم تحكمه نخبة محدودة وتزداد قلة من جهة وثروة من جهة ثانية. إنه عالم تتحكم به الأرقام المالية التي ليست إلا وهماً، إنما يبقى السؤال كيف يتخطى الناس وهم هيمنة الإيديولوجيا ووهم هيمنة العملة والدولة ...وهم المال؟ فقد حصل مواطن إماراتي على قروض بقيمة نصف مليون دولار مع أن دخله ١٨٠٠٠ دولار، وهذا تماماً كما حصل مواطن أميركي على قروض ب ٧٥٠ ألف دولار بينما دخله ٤٢٠٠٠ دولار!

ولكن، في الولايات المتحدة أو الإمارات هناك دول حقيقية وهناك موجودات للأمة. فأين الموجودات التي لدى الأرض المحتلة؟ لا نفط هنا ولا حتى سيادة على الأرض سلطوياً ولا حتى بمفهوم الملكية الفردية في القسم الأكبر مساحة من المناطق المحتلة ١٩٦٧وهما منطقتا (ب+ج) بموجب تقسيمات اوسلو.

ولكن اين الحكمة في هذا كله؟

تكمن الحكمة اللئيمة في نقل النظم الحاكمة قيادتها للمجتمع من السيطرة إلى الهيمنة. ولكن الهيمنة اليوم قد تخطت ما رآه غرامشي الهيمنة بالإيديولوجيا. أي شعور المواطن أنه جزء من الإيديولوجيا السائدة وبأنه "حر" وحاصل على حقوقه ولذا، هو مغتبط وليس ممتعضاً من النظام الحاكم.

يحصل هذا الاغتباط في فترات الازدهار، مثلا النمط الأميركي في الحياة، النمط الأوروبي، وحتى النمط النفطي...الخ.

هناك في الغرب وحده طبعاً كانت الهيمنة بالوعي المشوه، أما في حقبة العولمة فلدينا الهيمنة بالقيود المالية هيمنة المديونية، هيمنة المصارف هيمنة راس المال المالي . إذن من إخضاع المواطن بالغطاء الإيديولوجي الغرامشي الهيمنة إلى قيد المديونية والرهن او الارتهان للسلطة المصرفية. وهكذا ينتقل عالم راس المال في حقبة العولمة من السيطرة بالقمع إلى الهيمنة بالإيديولوجيا إلى الخنوع الواعي ال «مكلبش» بقيود إيديولوجيا المصارف! هنا ياتي قول السيد المسيح كي لا ينطبق: «لا تعبدوا إلهين الله والمال»! ما يحصل الآن عبادة الإثنين. فالراسمالية هي عبادة المال والمحافظية الجديدة والسلفية هي عبادة الله.

أهمية وخطورة الحالة هذه كامنة في تحول المواطن من نقدي ومعترض تمكن من تحويل السيطرة، من إرغام السلطة على تحويل السيطرة إلى الهيمنة عبر أو على ظهر ما يسمى المجتمع المدني، هنا تحول المواطن إلى التلطي بوعي وخاصة في دول المركز. كل مواطن غارق في المديونية ومتخم بالاستهلاك، وهذا يبعده عن أمرين أساسيين:

 الأول: يبعده عن الاعتقاد بانه حر ويعيش حياة أو مستقبلا مأموناً
 ويبعده عن نظرية الثورة أو المشاركة في مواجهة هيمنة السلطة التي شوهت نضاله من أجل هيمنة الطبقات الشعبية التي لها رايها ومشروعها في مجتمع مدني.

ربما يفسر لنا هذا خنوع الشارع في بلدان المركز لجرائم أنظمته السياسية على صعيد عالمي. فالمذابح في العراق وأفغانستان تقوم بها جيوش من مختلف بلدان الغرب، من الدول النائمة كالسويد والنرويج إلى الدول القاتلة في أميركا وبريطانيا. ولا يتحرك المجتمع المدني. هناك غدا المواطن مقوداً بسلوك انتهازي بمعنى: طالما أن الدولة بما تقوم به يحسن الوضع الاقتصادي الداخلي فلا بأس. وهكذا انتقلت شعوب المركز من رشوة الطبقة العاملة وإفساد قياداتها إلى «كلْبشة» الأكثرية الساحقة من هذه المجتمعات بالديون للمصارف مما جعل من المجتمع المدني مجتمعا انتهازيا. وحتى حين يصل الأمر إلى المأزق الحالي يشعر المواطن أنه عاجز عن التحرك، ويرى أن الحفاظ على يومه هو الأهم. لهذا الشعور علاقة بأساطير ما بعد الحداثة ووعظها بتفكيك وهجران السرديات الكبرى، اي اللاعمل واللااعتراض وبالتالي الخنوع. والحقيقة ان النخبة المصرفية/الممولنة ليست وحدها التي تحكم وإن كانت غالباً هي التي تتحكّم، فهي واحدة من خمس نخب تشكل جميعا الطبقة: النخبة المصرفية الممولنة، والنخبة السياسية الإدارية والنخبة العسكرية والنخبة الصناعية المدنية والنخبة الإعلامية.

هل لظاهرة الخنوع هذه وجهها المحلي؟ نعم. فمن يعمل في سلطة الحكم الذاتي يرى أن لديه امتتيازا على من لا يعمل، والأخير يبحث عن الوساطة والمحسوبية كي يعمل. وهذا وذاك في مديونية للمصارف ولذا عليه أن يسلك سلوك الفساد والكذب والصمت كي يبقى على ما هو عليه.

هم أنفسهم خطوط دفاعها

مرة أخرى، ماذا لو حصل قرار من السلطة بحل نفسها؟ هل ستسمح القوى التي كانت وراء إقامة هذه السلطة بحل نفسها، أي بذهاب السلطة وحصول فراغ سلطوي من اي نوع وخاصة نوع هذه السلطة؟ ولنفرض أن هناك اتجاهاً في السلطة أصر على حلها وتمكن من فرض ذلك فهل ستقوم بقية اجنحتها بالقبول؟

لماذا لا يبقى أحد أجنحة السلطة وبالتالي يتعهد بالاستمرار في القيام بدوره وتوسيع ذلك الدور ليغطي دورها كاملاً؟

لماذا لا تقوم مجموعة عسكرية بإعلان الأحكام العرفية وتولي السلطة بشكل مؤقت تحت تسمية حكومة إنقاذ؟ ولماذا لا تسيطر على هذه المجموعة زمرة او عصبة فاشية تفرض ما تريده بالقوة، ولديها الكثير من الأجهزة للقيام بذلك؟

وماذا عن الجناح السياسي في السلطة وهو بالطبع من المبنى الاجتماعي للتراكم وبقية شركاء السلطة من مختلف الطبقات والقوى السياسية؟ ماذا عن مختلف المستفدين من وجودها بدءا من حاجب المدرسة وانتهاء بالوزير، وماذا عن اصحاب الامتيازات والرخص والصلاحيات؟ ماذا عن جميع الذين انتقلوا من التجريد إلى التزويد، وماذا عن الذين اتوا باسم الاستثمار فابتلعوا البلد؟

وماذا عن حزام المثقفين الذين يعيشون على كادر وزارة الثقافة والإعلام وغيرها؟ وماذا عن المثقفين اللبراليين الذين نظَّروا للتسوية قبيل حصولها ومثقفي اليسار الذين نظَّروا للاعتراف بالكيان الصهيوني عقوداً ومثقفي اليسار الجديد الذين شاركوا في التفاوض ودعم أوسلو وكتبوا ونظَّرو للتسوية ثم رفعوا سياط نقدها بعد تقاعدهم السياسي والعمري؟

وماذا عن منظمات الأنجزة التي أمرعت وتمولت لدعمها لأوسلو وتعيشها عليه وممارستها التطبيع بمستوياته بحكم كونها ممولة من الغرب:

 التطبيع مع السلطة
 التطبيع مع الممولين
 التطبيع مع الكيان الصهيوني

رغم انتقادات هذه الفرق المتعددة للسلطة في السنوات الأخيرة وهم ضمنها وعلى كادرها، ونقدهم للتطبيع وهم يمارسون التطبيع، فإن هؤلاء سوف يهبون لحماية السلطة واستمرارها. سوف تنبري كافة هذه الفرق والمجموعات لإبقاء السلطة لأنهم جميعا من الفئات الاجتماعية التي ارتبط وجودها ببقاء السلطة وهي الجماعات التي انتقلت من التجريد إلى التزويد. سيكتب هؤلاء العرائض ويحركوا المسيرات لبقاء السلطة وسيقوموا بمبايعتها حين يجد الجدّ.

قد يدخل موضوع الدولة في النقاش الآن. هل قام اعتراض هؤلاء أو نقدهم للسلطة على أرضية تمسكهم بتحويل الحكم الذاتي إلى دولة، وهل نقدهم للمفاوضات قائم على هذا الأساس؟ إن صح هذا التقدير، ومن بينهم من يقف على هذه الأرضية، فإنهم ليسوا خارج إطار التسوية التي تعترف بالكيان الصهيوني. ولكن، كيف يمكن لطرف أو فريق ان يبحث عن دولة مستقلة من عدو استيطاني دون أن يحصل على ذلك بالقوة؟ هنا تكمن المفارقة والتشوه. لم يحصل أن قدم المستعمِر للشعب الخاضع له استقلالاً دون أو قبل إلحاق الهزيمة بالاستعمار، فكيف يمكن أن يحصل هذا من استعمار استيطاني اقتلاعي على دولة؟ قد يقول البعض: ولمَ لا، فقد تقاسمنا الوطن معهم وأخذوا حصة الأسد وقبلنا نحن ب «أوسلو-ستان»! كلا، فهذا العدو لا يبرح يعلن جهارا نهارا ان ما سينتهي إليه هو طرد الفلسطينيين تماماً.

لا بل إن ما تطرحه حكومة نتنياهو كما نرى اليوم هو السلام الاقتصادي ليس أكثر، اي استمرار دمج المناطق المحتلة بالاقتصاد الإسرائيلي وخلق الظروف الطاردة لترحيل المواطنين الفلسطينيين إلى خارج فلسطين التاريخية. وعليه، فإن اي حديث عن دولة في هذه المرحلة ليس إلا تلاعب بآذان المواطنين وتقوية للذين استفادوا من الاحتلال كي يستمروا في الزعم أنهم سيحصلوا على دولة.

وقد يحصل هذا، ولن يكون اكثر ابداً من تغيير تسمية الحكم الذاتي ليحل اسم دولة محل تسمية الحكم الذاتي.

هل هناك بديل؟

يتحدد هذا الأمر على ضوء طبيعة المرحلة، طبيعة الصراع وتطورات الصراع. وسيكون من الخطيئة بمكان الحديث عن الصراع عبر حصره في المستوى الفلسطيني مع الكيان الصهيوني الإشكنازي. فالصراع العربي الصهيوني صراع عالمي بدأ من فلسطين عبر البعد القومي فالبعد الأممي.

وكل يوم يمر تتضح الصورة وتتبلور المواقف ويتم الانتماء وصولا إلى تفاقمه ومن ثم إلى التجنيد. وربما كانت مجزرة قافلة الحرية شاهداً على ذلك.

قد يكون السيناريو الأقرب لتعديل الصورة وليس تغييرها هو ما كنت كتبت عنه قبيل الانتخابات لمجلس الحكم الذاتي قبل بضع سنوات، اي تبلور سلطة شعبية مدنية لا تتفاوض مع الاحتلال ولا تعطي نفسها دوراً سياسياً كما يريده الاحتلال، وتبلور هذه السلطة قد يكون بانتخابات بقوائم لا سياسية، وقد يكون إذا حلت السلطة نفسها بأن تتكون لجان شعبية ميدانية تدير شؤون البلد «إدارة البلد بالحماية الشعبية». وهذه مستحيلة على ضوء وجود أجهزة أمنية لقادتها طموحات سلطوية وارتباطات بهذه الدولة أو تلك.

تبقى إذن الانتخابات غير السياسية، وهذه إن حصل وسُمح بإجرائها يمكن ان تفرز قيادات إدارية لا سياسية بالمعنى التفاوضي. وفي هذه الحالة قد تقوم الدول "المانحة" بقطع التمويل عنها بل ستقوم بذلك وهذا أبسط الإجراءات واقلها عدوانية. بل هذا يذكرنا بقطع التمويل حينما فازت حماس بأغلبية مقاعد مجلس الحكم الذاتي. كما سيتوقف الكيان عن دفع المقتطعات الضريبية وقد تتوقف قطاعات رأسمالية كمبرادورية عن دفع الضرائب، قد يحصل مستوى من العصيان المدني اليميني هذه المرة، وهذا شبيه بدور الراسمالية في تشيلي في مساهمتها في التمهيد لإسقاط حكومة اليندي.

في هذا الموقف يمكن تطوير عامل إيجابي آخر وهو الضغط على الأنظمة العربية كي تتولى المساعدة المالية للمناطق المحتلة، وهي مساعدات تبرر نفسها في أنها مساعدات إنسانية اجتماعيا وقومية سياسياً. وسيكون من الصعب على الأنظمة العربية اتخاذ موقف متخاذل بهذه العلانية. وفي أسوأ الأحوال فإن اللجوء إلى الأنظمة العربية في هذا السياق هو زجها في درجة معينة من الاشتباك مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. سيكون هذا التطور درجة من زج الأنظمة العربية في الاشتباك الذي خرجت منه بدءاً بمؤتمر الرباط ١٩٧٤وصولا إلى اتفاق أوسلو وانتهاء إلى الحديث عن تحصيل دولة من احتلال استيطاني يريد الأرض كلها!

ملاحظة

كنعان النشرة الألكترونية
السنة العاشرة ـ العدد ٢٢٨٤
٤ تمّوز (يوليو) ٢٠١٠


RSS 2.0 [?]

Private area

Site powered by SPIP
Template GPL Lebanon 1.9