Middle East Watch

ميدل إيست واتش
النشرة الاخبارية لشرق أوسط حرّ

© تموز (يوليو) 2022


«الهجرة» اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين

كنعان - السنة السابعة ـ العدد ١٣٣٦

الأحد 21 ذو الحجة 1428, بقلم جورج كرزم

كل اصدارات هذا المقال:

  • عربي

لا يوجد تعريف متفق عليه، إسرائيليا، حول المصطلح العبري «yored» («النازح» أو «المهاجر» من إسرائيل). إلا أن المراجع الإسرائيلية الرسمية تقول بأن عدد اليهود الذين «هجروا» إسرائيل، منذ إنشائها وحتى عام ٢٠٠٣، ولم يعودوا إليها (بعد طرح عدد المتوفين)، بلغ نحو نصف مليون (وهذا لا يشمل أبنائهم الذين ولدوا في الخارج) [1]. وقد بلغ عدد اليهود الذين «هجروا» إسرائيل خلال التسعينيات، نحو ١٥ – ١٧ ألف نسمة سنويا، وهو يعادل حوالي ٣ «مهاجرين» لكل ١٠٠٠ «مواطن» إسرائيلي [2]. ولو أخذنا بالاعتبار أن مصطلح "مواطن إسرائيلي"، حسب المراجع الإسرائيلية الرسمية، يشمل أيضا فلسطينيي ١٩٤٨، نجد بأن النسبة الفعلية «للهجرة» اليهودية المعاكسة، من إجمالي عدد اليهود في إسرائيل، هي بالتأكيد أكبر من ذلك. وتشمل «الهجرة» المعاكسة العديد من اليهود الذين لم يمكثوا في فلسطين، بعد «هجرتهم» إليها واستيطانهم فيها، سوى بضع سنوات. كما أن أكثر من نصف اليهود الذين «هجروا» إسرائيل توجهوا إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا، بينما توجه الباقون إلى بلدان أخرى [3].

واعتُبِرَت إسرائيل، إثر السنوات الأولى لتأسيسها (الخمسينيات وأوائل الستينيات)، وفي تسعينيات القرن الماضي، من أكثر دول العالم استيعابا للمهاجرين الجدد إليها، علما بأن «المهاجرين» اليهود الجدد، في الحالة الفلسطينية، هم مستعمرون جاءوا إلى فلسطين في سياق النشاط الصهيوني الكولونيالي الاستيطاني لاحتلال الأرض الفلسطينية وتفريغها من سكانها العرب الأصليين. وتعد «الهجرة» اليهودية إلى فلسطين أحد أهم عناصر الصهيونية الثلاث، أي الهجرة والأرض والدولة اليهودية.

وإثر حرب لبنان الثانية (تموز – آب ٢٠٠٦)، ولأول مرة منذ الثمانينيات، سُجِل في إسرائيل (عام ٢٠٠٧) ميزان هجرة سلبي، حيث أن عدد اليهود الذين «هاجروا» فلسطين أو من المتوقع أن «يهجروها» خلال نفس العام، أكبر من أولئك المتوقع أن «يهاجروا» إليها، في نفس الفترة. ومن المتوقع أن تصل الفجوة بين «الهجرة» إلى إسرائيل و"الهجرة العكسية" إلى ٥٠٠٠ لصالح الهجرة العكسية [4]. ومنذ أوائل القرن ٢١ بلغ متوسط «الهجرة» المعاكسة نحو ٢٠ ألف سنويا، بينما يتراجع باستمرار عدد «المهاجرين» إلى إسرائيل [5]. وتضمنت الهجرة المعاكسة، منذ أوائل هذا القرن، وبشكل أساسي، يهودا من دول الاتحاد السوفياتي السابق، و«هاجر» معظمهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، بعد الإقامة في إسرائيل لبضع سنوات [6].

وبشكل عام، تعد الحروب العربية ضد إسرائيل وتصاعد المقاومة العربية والفلسطينية، من ناحية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، من ناحية أخرى، عاملا أساسيا في تصاعد الهجرة اليهودية العكسية وتجاوزها حجم «الهجرة» إلى إسرائيل. هذا ما حدث إثر حرب أكتوبر ١٩٧٣، أو في عامي ١٩٨٣ – ١٩٨٤ إثر التضخم المالي الهائل في إسرائيل [7]. ومن أهم أسباب تصاعد «الهجرة» العكسية، منذ أوائل هذا القرن: الوضع الأمني غير المستقر، وانعدام الثقة بالسلطة الإسرائيلية الحاكمة، والنظام التعليمي.

وفي الواقع، «الهجرة» اليهودية إلى فلسطين تعد، تاريخيا واستراتيجيا، حجر الزاوية في مخطط الحركة الصهيونية لإنشاء وتطوير وتقوية «الدولة اليهودية». إذ أن هدف الصهيونية الأساسي، أي إقامة «الدولة اليهودية»، ارتبط ارتباطا عضويا وثيقا بأهم عنصري الممارسة الصهيونية الكولونيالية في فلسطين وهما الهجرة والأرض. فالشرط الكولونيالي الأساسي لإقامة «الدولة اليهودية»، وفيما بعد تعزيزها وتقويتها بشريا وعسكريا، هو استجلاب أكبر عدد ممكن من «المهاجرين» اليهود إلى فلسطين وتوطينهم فيها عبر الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأرض ونهبها من أصحابها العرب، والعمل بالتالي على تغيير التوازن الديمغرافي اليهودي – العربي في فلسطين لصالح اليهود وزيادة قوتهم البشرية والعسكرية والاقتصادية، تمهيدا للحظة الحسم العسكري الذي سيقرر نهائيا نجاح أو فشل الحركة الصهيونية في إقامة «دولتها» وتوفير مقومات الحياة لاستمراريتها.

إذن، تشكل «الهجرة» الإسرائيلية العكسية، نقيضا وجوديا لأهم أسس الصهيونية الثلاثة ومبرر وجودها: الأرض والهجرة والدولة اليهودية. وإذا كانت «الهجرة» الصهيونية إلى فلسطين تشكل قاسما مشتركا لكافة الأحزاب والمؤسسات الصهيونية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فإن «الهجرة» العكسية تشكل ضربة قاصمة لأهم أسس الصهيونية، وتعاظمها يعني تعميق التشكيك اليهودي بجدوى استمرار المشروع الصهيوني المتجسد بالدولة اليهودية التي تشكل «الهجرة» اليهودية إليها عمودها الفقري. بالإضافة إلى ذلك، تعد ظاهرة امتلاك العديد من الإسرائيليين جنسية مزدوجة «جزء من الشعور بالنفي الداخلي التي تميز قطاعات كثيرة من المجتمع الإسرائيلي...فهناك إحساس بـأن البيت يتفكك وليس باستطاعتك التأثير لمنع ذلك» [8]. بل إن أبراهام بورغ رئيس «الكنيست» والوكالة اليهودية الأسبق، يتساءل: «مَن مِن الإسرائيليين واثق بأن أولادهم سيعيشون هنا؟ 50% منهم في أحسن الأحوال، أي أن النخبة الإسرائيلية أصبحت منفصلة عن هذا المكان»، ونصح بورغ كل إسرائيلي بأن يستصدر جواز سفر أجنبي [9].

وحاليا، تشير مختلف التقارير الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية إلى اتجاه حاد للهجرة المعاكسة، وبالتالي تناقص متراكم للعنصر البشري في الدولة اليهودية، علما بأن ذلك العنصر يعد أثمن رأسمال لتلك الدولة ومشروعها، والشرط الأساسي الضروري لتثبيت ركائزها الكولونيالية. ومن مؤشرات تعاظم أكبر خطر وجودي تواجهه الدولة اليهودية منذ نشأتها، أن بعض التقارير الإسرائيلية أشارت، في نيسان ٢٠٠٧، إلى أن حوالي ربع الإسرائيليين يدرسون إمكانية «الهجرة» المعاكسة، ونحو نصف الشباب الإسرائيلي يفكرون في «الهجرة» من إسرائيل [10].

أسئلة أمنية - ديمغرافية استراتيجية حساسة

نظرا لشح المعلومات والمعطيات العلمية التفصيلية الموثوقة، المستندة إلى المصادر الإسرائيلية الأولية المتعلقة بموضوع الهجرة المعاكسة، ونظرا للنقص الواضح في الأدبيات المتصلة بهذا المجال، وغياب الدراسات الهادفة إلى معالجة خلفيات ودوافع ومستويات وتأثيرات الهجرة المعاكسة، فقد غابت الأعمال البحثية التحليلية العربية العميقة الخاصة بهذه المسألة. ويرجع هذا الأمر إلى اعتبار المؤسسة الصهيونية «الهجرة» اليهودية و«الهجرة» المعاكسة مسألتين أمنيتين – استراتيجيتين من الدرجة الأولى، وبالتالي لا تسمح تلك المؤسسة سوى بنشر المعطيات والأرقام العامة والإجمالية في هذا المجال، بعيدا عن التفاصيل الكمية والوصفية التي تعتبرها ذات مضمون أمني – استراتيجي.

وبهدف تسهيل وتعميق الفهم التحليلي الجدلي لمسألة «الهجرة» المعاكسة، فقد دأبت مؤخرا على بلورة بعض التعريفات لتوظيفها في اتجاه تجذير وتأصيل الفهم التحليلي النقدي لمسألة «الهجرة» اليهودية إلى فلسطين، باعتبارها العمود الفقري للكولونيالية الصهيونية، ومن ثم، فهم «الهجرة» المعاكسة باعتبارها ضربة نوعية قاصمة لأهم أسس الصهيونية، وأخيرا، استشراف آفاق تحول «الهجرة» المعاكسة إلى خطر وجودي على «الدولة اليهودية». وتتلخص هذه التعريفات بما يلي:

١- الحد الديمغرافي الحرج (demographic threshold) (الناتج عن الهجرة المعاكسة): هو عبارة عن مستوى الكثافة العددية «الهجرة» المعاكسة الذي يجب عنده أن تعمل المؤسسة الصهيونية على تطوير آليات أكثر فعالية لمواجهته، كي تمنع ارتفاعه إلى مستوى الضرر الديمغرافي، علما بأن الحد الديمغرافي الحرج عادة ما يكون أقل من مستوى الضرر الديمغرافي.
ويعد الحد الديمغرافي الحرج معقدا لكثرة العوامل السياسية – الأمنية والاقتصادية والأيديولوجية والثقافية والإثنية المتحكمة في تقديره، وتداخلها وارتباطها ببعضها البعض.
٢- مستوى الضرر الديمغرافي (demographic injury level): هو المستوى الكمي (العددي) المعين «الهجرة» المعاكسة الذي يصبح عنده الضرر جديا وخطيرا على بنية ووجود الدولة الكولونيالية ذاتها. بمعنى آخر، هو أقل مستوى كمي من «الهجرة» المعاكسة التي قد يحدث عندها الضرر الديمغرافي الوجودي الجدي على «الدولة اليهودية». وهذا يعني أن مقدار الضرر يعادل تكاليف مواجهته.

ويمكننا معرفة مستوى الضرر الديمغرافي استنادا إلى شواهد إسرائيلية ميدانية وتجارب ماضية في مجال «الهجرة» اليهودية إلى «الدولة اليهودية» و«الهجرة» المعاكسة منها.

أما الأسئلة الأمنية - الديمغرافية الاستراتيجية المفصلية، المستندة إلى التعريفات السابقة، والتي أجد ضرورة بحثها مستقبلا، بهدف التوصل إلى إجابات علمية مدروسة لها، فتتلخص بما يلي: ما هو الحد الديمغرافي الحرج (بالنسبة للمؤسسة الصهيونية) الناتج عن «الهجرة» اليهودية المعاكسة، وبالتالي ما هي التحولات السياسية – الأمنية والإقتصادية – الاجتماعية التي أثرت وستؤثر مستقبلا على هذا الحد بحيث يصل إلى مستوى الضرر الديمغرافي؟ وارتباطا بالمعضلة السابقة، يبرز السؤال البحثي التالي: ما هي العلاقة بين الحد الديمغرافي الحرج الناتج عن «الهجرة» المعاكسة، ومستوى الضرر الديمغرافي، وما هي شروط تحول مستوى الضرر إلى خطر استراتيجي حقيقي على مجرد الوجود البشري والمؤسسي للدولة اليهودية؟

والمسألة البديهية التي بد من أخذها بالاعتبار، أن تدهور الأوضاع الأمنية داخل «الدولة اليهودية»، بالدرجة الأولى، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، بالدرجة الثانية، يؤديان إلى هبوط كبير في «الهجرة» اليهودية إلى إسرائيل، من ناحية، وتعاظم «الهجرة» اليهودية العكسية، من ناحية أخرى.

كما أن العوامل الأمنية – العسكرية والاقتصادية هي التي تقرر، بشكل أساسي، مدى تعاظم أو تراجع «الهجرة» المعاكسة، بينما تلعب العوامل الأيديولوجية – العقائدية الصهيونية دورا هامشيا غير حاسم في هذه المسألة.

يضاف إلى ذلك أنه ابتداء من انتفاضة الأقصى (أواخر عام ٢٠٠٠)، ومن ثم مرورا بحرب لبنان الثانية (تموز – آب ٢٠٠٧)، تعاظمت عوامل الطرد الديمغرافي من إسرائيل، فأصبحت أعلى من عوامل الجذب إليها.

حواشي

[1كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي لعام ٢٠٠٤.
سيكرون، موشي. الهجرة العكسية من إسرائيل في التسعينيات. تل أبيب: «مِكسم»، ٢٠٠٣ (عبري).

[2سيكرون، موشي. مصدر سابق.

[3Kruger, Martha. Israel: Balancing Demographics in Jewish State. Jerusalem: mpi, 2005.

[4«يديعوت أحرونوت»، ٢٠٠٧/٤/٢٠.

[5المؤتمر اليهودي العالمي: www.worldjewishcongress.org

[6المصدر السابق.

[7Kav Laoved, Annual Report (2004)

[8«هآرتس»، ٢٠٠/٢/١٩.

[9«هآرتس»، ٢٠٠٧/٦/٨.

[10«معاريف»، ٢٠٠٧/٤/١٩.


RSS 2.0 [?]

المجال الخاص

موقع صمم بنظام SPIP
صفحة نموذجية GPL Lebanon 1.9